الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } * { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }

{ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } فيما قاله { أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه. والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بـين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بـين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ } جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالِهما وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كأنَّه قيل: ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولون ما يقولون. وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بـيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه. ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة. ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّنبـيهِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ علَّةَ ما ارتكبُوه واجترؤا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } استئنافٌ مسوق لتهويلِ ما اجترؤا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير. والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ وقوله تعالى { إِن نَّشَأْ } الخ، بـيانٌ لما يُنبىءُ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبـيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئةِ به أي فعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم { نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ } كما خسفناها بقارونَ { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً } أي قِطعاً { مّنَ ٱلسَّمَاء } كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم. وقيل: هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلُوه افتراء وهُزؤاً وتهديداً عليها، والمعنى أعمُوا فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أو نُسقط عليهم كِسفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البـيِّنات فتأمَّلْ وكن على الحقِّ المُبـين. وقُرىء يَخسف ويَسقط بالياء لقوله تعالى: { ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } وكِسْفاً بسكون السِّينِ { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذُكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي من الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر { لآيَةً } واضحةً { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطي القبائحِ وينيبُ إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى: