الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } * { فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } * { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكايةِ سؤالِ الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك { سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ، أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بـيننا وبـينهم كأنَّهم بـيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم: { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل: يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها { أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ.

{ فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } من جملةِ ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رؤوسِ الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية. والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعدها من الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بـيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم، والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف، وتقيـيد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ. وقولُه عزَّ وجلَّ: { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثم نقولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } يكون من الأهوالِ والأحوالِ ما لا يحيطُ به نطاقُ المقالِ.

وقوله تعالى:

{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَاتٍ } بـيان لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسانِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتُنا النَّاطقةُ بحقِّيةِ التَّوحيدِ وبُطلان الشِّركِ { قَالُواْ مَا هَـٰذَا } يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } فيستتبعكم بما يستدعيِه من غيرِ أنْ يكونَ هناك دينٌ إلهيٌّ، وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبـين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبـيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد { وَقَالُواْ مَا هَـٰذَا } يعنون القرآنَ الكريمَ { إِلاَّ إِفْكٌ } أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع { مُّفْتَرًى } بإسنادِه إلى الله تعالى { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ } أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ وبالثَّاني نظمَه المعجزَ { لَمَّا جَاءهُمْ } من غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ وما في لمّا من المسارعةِ إلى البتِّ بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه.