الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } * { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }

{ وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ } أي وسخَّرنا له الرِّيحَ. وقُرىء برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الرِّيحُ مسخَّرةٌ، وقُرىء الرِّياحَ { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك. والجملةُ إما مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ. وقُرىء غُدوتُها ورَوحتُها. وعن الحسنِ رحمه الله: كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ يروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل: كان يتغذَّى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ. ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ: نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى.

{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل: كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ. وقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } إمَّا جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ { بِإِذْنِ رَبّهِ } بأمرِه تعالى كما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى: { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعةِ سليمانَ. وقُرىء يُزغ على البناءِ للمفعولِ من أزاغَه { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ. رُوي عن السُّدِّيِّ رحمه الله كان معه مَلكٌ بـيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء } تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى: { مِن مَّحَـٰرِيبَ } الخ، بـيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل: هي المساجدُ { وَتَمَـٰثِيلَ } وصور الملائكةِ والأنبـياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم. وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ. ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدانِ ذراعيهما وإذا قعدَ أضلَّه النَّسرانِ بأجنحتِهما { وَجِفَانٍ } جمع جَفْنةٍ وهي الصَّحفةُ { كَٱلْجَوَابِ } كالحياضِ الكبارِ جمع جابـيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصِّفاتِ الغالبةِ كالدَّابة. وقُرىء بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجلٍ { وَقُدُورٍ رسِيَـٰتٍ } ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها { ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَـٰكِراً } حكاية لما قيل لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ } أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل: الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ. ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي.