الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } * { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } * { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ }

{ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ. من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ. وقُرىء ولا تُصاعرْ. وقُرىء ولا تَصْعِرْ من الإفعالِ والكلُّ بمعنى مثل عَلاَهُ وعَالاَهُ وأعَلاَهُ { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحًا } أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ أو مصدرُ مؤكِّدٌ لفعلِ هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه، وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا رعايةً للفواصلِ. { وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ } بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بـين الدبـيبِ والإسراعِ وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: " سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ " وقولُ عائشةَ في عمرَ رضي الله عنهما: (كانَ إذا مشَى أسرعَ) فالمرادُ به ما فوقَ دبـيبِ المتماوتِ. وقُرىء بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ. { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } وانقُص منه واقصُر { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوٰتِ } أي أوحشَها { لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبـيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ، وتمثيلِ أصواتِهم بالنُّهاقِ وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه، وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بـيانَ حالِ صوتِ كلِّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بـيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بـينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ.

وقولُه تعالى: { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } رجوعٌ ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبـيخٌ لهم على إصرارِهم على ما هُم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ، والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمًّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكونُ كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غيرِ أن يكونَ له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً أو مَعَاداً، وإما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ من الكائناتِ مسخرةٌ لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ، وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً } محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ. وقُرىء أصبغَ بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقُرىء نعمةً { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ } في توحيدِه وصفاتِه { بِغَيْرِ عِلْمٍ } مستفادٍ من دليلٍ { وَلاَ هُدًى } من جهةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ } أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ.