الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }

{ بِنَصْرِ ٱللَّهِ } وتغليبِه من له كتابٌ على من لا كتابَ له وغيظِ من شمِت بهم من كفَّار مكَّةَ وكونِ ذلك من دلائلِ غلبةِ المؤمنينَ على الكفَّار، وقيل: نصرُ الله إظهارُ صدقِ المؤمنينَ فيما أخبرُوا به المشركينَ من غَلَبة الرُّومِ على فارسَ، وقيل: نصرُه تعالى أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالمين بعضاً وفرَّق بـين كلمتِهم حتَّى تناقصُوا وتفانوا وفلَّ كلٌّ منهما شوكةَ الآخرِ وفي ذلك قوَّةٌ. وعن أبـي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه أنه وافقَ ذلك يومَ بدرٍ. وفيهِ من نصرِ الله العزيزِ للمؤمنينَ وفرحِهم بذلك ما لا يَخْفى، والأولُ هو الأنسبُ لقولِه تعالى: { يَنصُرُ مَن يَشَاء } أنْ ينصرَهُ من عبادِه على عدوِّه ويُغلِّبه عليهِ فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى:لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } المبالغُ في العزَّةِ والغَلَبةِ فلا يُعجزه مَن يشاءُ أنْ ينصرَ عليهِ كائناً مَن كان { ٱلرَّحِيمُ } المبالغ في الرَّحمةِ فينصرُ من يشاءُ أنْ ينصرَه أيَّ فريقٍ كان، والمرادُ بالرَّحمةِ هي الدُّنيوية، أمَّا على القراءةِ المشهُورة فظاهرٌ لما أنَّ كِلا الفريقينِ لا يستحقُّ الرَّحمةَ الأُخرويَّةَ. وأمَّا على القراءةِ الأخيرةِ فلأنَّ المُسلمينَ وإنْ كانُوا مستحقِّين لها لكنْ المرادُ هٰهنا نصرُهم الذي هُو من آثارِ الرَّحمةِ الدُّنيويةِ، وتقديمُ وصفِ العزَّةِ لتقدمِه في الاعتبارِ { وَعَدَ ٱللَّهِ } مصدرٌ مؤكِّدٌ لنفسِه لأنَّ ما قبله في مَعنى الوعدِ كأنَّه قيلَ: وَعَدَ الله وَعْداً { لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرةِ لاستحالةِ الكذبِ عليهِ سبحانَه. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتعليلِ الحُكمِ وتفخيمِه. والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمعنى المصدرِ وقد جُوِّز أنْ تكونَ حالاً منه فيكونَ كالمصدرِ الموصوفِ، كأنَّه قيل: وَعَدَ الله وَعْداً غيرَ مُخلفٍ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أيْ ما سبقَ من شؤونِه تعالى.

{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } وهو ما يُشاهدونَهُ من زخارِفها وملاذِّها وسائرِ أحوالِها الموافقةِ لشهواتِهم الملائمةِ لأهوائِهم المستدعيةِ لانهماكِهم فيها وعكوفِهم عليها لا تمتعهم بزخارِفها وتنعمهم بملاذِّها كما قيلَ فإنَّهما ليسا ممَّا علمُوه منها بل من أفعالِهم المترتبةِ على علومِهم، وتنكيرُ ظاهراً للتَّحقيرِ والتخَّسيسِ دونَ الوحدةِ كما تُوهِّم أي يعلمون ظاهراً حقيراً خسيساً من الدُّنيا { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ } التي هي الغايةُ القُصوى والمطلبُ الأسنَى { هُمْ غَـٰفِلُونَ } لا يُخطرونَها بالبالِ ولا يُدركون من الدُّنيا ما يؤدي إلى معرفتِها من أحوالِها ولا يتفكَّرون فيها كما سيأتي. والجملةُ معطُوفةٌ على يعلمونَ وإيرادُها إسمية للدلالةِ على استمرارِ غفلتِهم ودوامِها وهُم الثَّانية تكريرٌ للأولى أو مبتدأٌ وغافلون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولى وهو عَلَى الوجهينِ منادٍ على تمكُّنِ غفلتِهم عن الآخرةِ المحققِّةِ لمقتضَى الجملةِ المتقدمةِ تقريراً لجهالتِهم وتشبـيهاً لهم بالبهائمِ المقصورِ إدراكاتُها من الدُّنيا على ظواهِرها الخسيسةِ دونَ أحوالِها التي هي مَبَادي العلمِ بأمورِ الآخرةِ وإشعاراً بأنَّ العلمَ المذكورَ وعدمَ العلمِ رأساً سِيَّانِ.