الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } * { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } * { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ } كما أرسلناك إلى قومِك { فَجَاؤُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } أي جاء كلُّ رسول قومَه بما يخصُّه من البـيِّنات كما جئتَ قومَك ببـيِّناتك. والفاءُ في قولِه تعالى: { فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } فصيحةٌ، أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ للتنبـيه على مكانِ المحذوفِ والإشعارِ بكونِه علَّةً للانتقامِ وفي قوله تعالى: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقِّين على الله تعالى أنْ ينصرَهم، وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرةِ لأجلهِ وقد يُوقف على حقَّاً على أنَّه متعلق بالانتقامِ، ولعلَّ توسيط الآيةِ الكريمةِ بطريقِ الاعتراضِ بـين ما سبقَ وما لحقَ من أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها لإنذارِ الكَفَرةِ وتحذيرِهم عن الإخلالِ بمواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى لعلَّكم تشكرُون بمقابلةِ النعمِ المعدودةِ المنوطةِ بإرسالِها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك الأممِ من الانتقامِ.

{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ } استئنافٌ مسوقٌ لبـيانِ ما أُجمل فيما سبقَ من أحوالِ الرِّياحِ { فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ } متصلاً تارةً { فِى ٱلسَّمَاء } في جوِّها { كَيْفَ يَشَاء } سائراً وواقفاً مُطبقاً وغيرَ مطبقٍ من جانبٍ دون جانبٍ إلى غيرِ ذلك. { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } تارةً أُخرى أي قِطعاً. وقُرىء بسكونِ السِّينِ على أنَّه مخففٌ، جمعُ كِسْفة أو مصدرٌ وصفَ به { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ } المطرَ { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في التارتين. { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي بلادَهم وأراضيَهم { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } فاجؤا الاستبشارَ بمجيء الخِصْبِ { وَإِن كَانُواْ } إنْ مخففة من إنَّ وضميرُ الشَّأنِ الذي هُو اسمُها محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كانَوا { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي المطرُ { مِن قَبْلِهِ } تكريرٌ للتَّأكيدِ والإيذانِ بطولِ عهدِهم بالمطرِ واستحكامِ يأسِهم منه، وقيل الضَّميرُ للمطرِ أو السَّحابِ أو الإرسالِ وقيل: للكسف على القراءةِ بالسكون وليس بواضحٍ وأقربُ من ذلك أنْ يكونَ الضَّميرُ للاستبشارِ، ومن متعلقة بـينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببـيانِ اتصالِ اليأسِ بالتنزيلِ المتصلِ بالاستبشارِ وبشهادةِ إذا الفجائية { لَمُبْلِسِينَ } خبرُ كانُوا، واللامُ فارقةٌ، أي آيسينَ { فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءاثَـٰرِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ } المترتبةِ على تنزيلِ المطرِ من النباتِ والأشجارِ وأنواعِ الثمارِ. والفاءُ للدِّلالةِ على سرعةِ ترتبها عليهِ. وقُرىء أثرِ بالتوَّحيدِ. وقولُه تعالى: { كَيْفَ يُحْيي } أي الله تعالى { ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } في حيِّزِ النِّصبِ بنزعِ الخافضِ. وكيفَ معلِّقٌ لانظرْ أي فانظُرْ إلى إحيائِه البديعِ للأرضِ بعد موتِها وقيلَ: على الحاليَّةِ بالتَّأويلِ وأيَّاً ما كان فالمُرادُ بالأمرِ بالنَّظرِ التنبـيهُ عَلَى عظمِ قُدرتِه تعالى وسَعَةِ رحمتِه مع ما فيه من التَّمهيدِ لما يعقبُه مِنْ أمرِ البعثِ، وقُرىء تُحيـي بالتَّأنيثِ على الإسنادِ إلى ضميرِ الرَّحمةِ { إِنَّ ذٰلِكَ } العظيمَ الشَّأنِ الذي ذُكر بعضُ شؤونه { لَمُحْيِى ٱلْمَوْتَى } لقادرٌ على إحيائِهم فإنَّه إحداثٌ لمثلِ ما كانَ في موادِّ أبدانِهم من القُوى الحَيَوانيَّةِ كما أنَّ إحياءَ الأرضِ إحداثٌ لمثلِ ما كانَ فيها منَ القُوى النباتيَّةِ أو لمحيـيهم ألبتةَ. وقولُه تعالى { وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } تذيـيلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلَه أي مبالغٌ في القُدرةِ على جميعِ الأشياءِ التي من جملتها إحياؤُهم لما أنَّ نسبةَ قُدرتِه إلى الكُلِّ سواءٌ.