الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }

{ فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } أي اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرَّم ما ذُكر قبل نزولِ التوراةِ على بني إسرائيلَ و[على] مَنْ تقدَّمهم من الأمم { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } من بعد ما ذُكر من أمرهم بإحضار التوراةِ وتلاوتِها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزامِ، والتقيـيدُ به للدَلالة على كمال القبحِ { فَأُوْلَـئِكَ } إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ، والجمعُ باعتبار معناه كما أن الإفراد في الصلة باعتبار لفظِه، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعدِ منزلتِهم في الضلال والطُغيان، أي فأولئك المُصِرُّون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقةُ الحال وضاقت عليهم حَلْبةُ المُحاجَّة والجدالِ { هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } المفْرِطون في الظلم والعُدوان المُبْعِدون فيهما، والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ من جهته تعالى لبـيان كمالِ عُتوِّهم، وقيل: هي في محل النصبِ داخلةٌ تحت القولِ عطفاً على قوله تعالى: { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ } { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ } أي ظهر وثبت صِدقُه تعالى فيما أنزل في شأن التحريمِ، وقيل: في قوله تعالى:مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا } [آل عمران: 67] الخ أو صَدَق في كل شأنٍ من الشؤون وهو داخلٌ في ذلك دخولاً أولياً، وفيه تعريضٌ بكذبهم الصريح { فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ } أي ملةَ الإسلامِ التي هي في الأصل ملةُ إبراهيمَ عليه السلام فإنكم ما كنتم متّبعين لمِلّته كما تزعُمون، أو فاتّبعوا مِلَّته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطَرَّتْكم إلى التحريف والمكابدةِ وتلفيقِ الأكاذيبِ لتسوية الأغراضِ الدنيئةِ الدنيويةِ وألزمتكم تحريمَ طيباتٍ محلَّلةٍ لإبراهيمَ عليه السلام ومن تبِعَه للدَلالة على أن ظهورَ صدقِه تعالى موجبٌ للاتباع وتركِ ما كانوا عليه { حَنِيفاً } أي مائلاً عن الأديان الزائغةِ كلِّها { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي في أمر من أمور دينِه أصلاً وفرعاً، وفيه تعريضٌ بإشراك اليهودِ وتصريحٌ بأنه عليه السلام ليس بـينه وبـينهم علاقةٌ دينيةٌ قطعاً، والغرضُ بـيانُ أن النبـي صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيمَ عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءةِ عن كل معبودٍ سواه سبحانه وتعالى، والجملةُ تذيـيلٌ لما قبلها.

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } شروعٌ في بـيان كفرِهم ببعضٍ آخرَ من شعائر ملتِه عليه السلام إثرَ بـيانِ كفرِهم بكون كلِّ المطعومات حِلاًّ له عليه السلام، رُوي أنهم قالوا: بـيتُ المقدس أعظمُ من الكعبة لأنه مُهاجَرُ الأنبـياءِ و[لكونه] في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبةُ أعظمُ فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ، أي إن أولَ بـيتٍ وُضع للعبادة وجُعِل مُتعبَّداً لهم، والواضعُ هو الله تعالى ويؤيِّده القراءةُ على البناء للفاعل، وقوله تعالى: { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } خبرٌ لإن وإنما أُخبر بالمعرفة مع كونِ اسمِها نكرةً لتخصُّصها بسببـين: الإضافةِ والوصفِ بالجملة بعدها أي لَلْبـيتُ الذي ببكةَ أي فيها، وفي ترك الموصوفِ من التفخيم ما لا يخفى، وبكةُ لغةٌ في مكةَ، فإن العربَ تعاقِبُ بـين الباء والميم كما في قولهم: ضربةُ لازبٍ ولازم، والنميطُ والنبـيط في اسم موضعٍ بالدَّهناء، وقولِهم أمرٌ راتبٌ وراتمٌ وسبّد رأسَه وسمّدها وأغبطت الحِمىٰ وأغمطت: وهي عَلَم للبلد الحرام من بكّة إذا زحَمه لازدحام الناس فيه.

السابقالتالي
2