الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

{ بَلَىٰ } إثباتٌ لما نفَوْه أي بلى عليهم فيهم سبـيلٌ، وقولُه تعالى: { مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَٱتَّقَى فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } استئنافٌ مقرِّر للجملة التي سد { بَلَىٰ } مسدَّها والضميرُ المجرور لمن أو لله تعالى وعمومِ المتقين نائبٌ منابَ الراجعِ من الجزاء إلى مَنْ ومُشعِرٌ بأن التقوى مَلاكُ الأمرِ، عامٌّ للوفاء وغيرِه من أداء الواجباتِ والاجتنابِ عن المناهي { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ } أي يستبدلون ويأخُذون { بِعَهْدِ ٱللَّهِ } أي بدلَ ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والوفاءِ بالأمانات { وَأَيْمَـٰنِهِمْ } وبما حلفوا به من قولهم: والله لنُؤمِنن به ولننصُرَنّه { ثَمَناً قَلِيلاً } هو حُطامُ الدنيا { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفاتِ القبـيحةِ { لاَ خَلَـٰقَ } لا نصيبَ { لَهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ } من نعيمها { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ } أي بما يسُرّهم أو بشيء أصلاً وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبـيخِ والتقريعِ في أثناء الحساب من الملائكة عليهم السلام أو لا ينتفعون بكلماتِ الله تعالى وآياتِه، والظاهرُ أنه كنايةٌ عن شدة غضبِه وسَخَطِه نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى: { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } فإنه مَجازٌ عن الاستهانة بهم والسخطِ عليهم متفرِّعٌ على الكناية في حق من يجوزُ عليه النظرُ لأن مَن اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره بصرَه ثم كثُر حتى صار عبارةً عن الاعتداد والإحسانِ وإن لم يكن ثَمَّةَ نظَرٌ ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظرُ مجرد المعنى من الإحسان مَجازاً عما وقع كنايةً عنه فيمن يجوزُ عليه النظر، ويومَ القيامة متعلقٌ بالفعلين وفيه تهويل للوعيد { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } أي لا يُثني عليهم أو لا يُطَهِّرهم من أوضار الأوزار { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } على ما فعلوه من المعاصي قيل إنها نزلت في أبـي رافعٍ ولُبابةَ بنِ أبـي الحقيق وحُيَـيِّ بنِ أخطَبَ حرّفوا التوراة وبدلوا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا الرِّشوةَ على ذلك. " وقيل: نزلت في الأشعث بنِ قيسٍ حيث كان بـينه وبـين رجل نزاعٌ في بئر فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «شاهداك أو يمينُه» فقال الأشعث: إذن يحلِفُ ولا ببالي، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حلف على يمين يستحِقُّ بها مالاً هو فيها فاجرٌ لقِيَ الله وهو عليه غضبان» " ، وقيل: في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به. { وَإِنَّ مِنْهُمْ } أي من اليهود المحرِّفين { لَفَرِيقًا } ككعب بنِ الأشرفِ ومالكِ بنِ الصيف وأضرابِهما { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِٱلْكِتَـٰبِ } أي يفتلونها بقراءته فيُميلونها عن المُنزّل إلى المحرّف أو يعطِفونها بشَبَه الكتاب، وقرىء يُلوّون بالتشديد ويلُون بقلب الواو المضمومة همزةً ثم تخفيفِها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها من الساكن { لِتَحْسَبُوهُ } أي المحرِّفَ المدلولَ عليه بقوله تعالى: { يَلْوُونَ } الخ وقرىء بالياء والضميرُ للمسلمين { مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } أي من جملته وقولُه تعالى: { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـٰبِ } حالٌ من الضمير المنصوبِ أي والحالُ أنه ليس منه في نفس الأمرِ وفي اعتقادهم أيضاً { وَيَقُولُونَ } مع ما ذكر من اللَّيِّ والتحريف على طريقة التصريحِ لا بالتورية والتعريض { هُوَ } أي المحرفُ { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي منزلٌ من عند الله { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } حالٌ من ضمير المبتدأ في الخبر أي والحالُ أنه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضاً وفيه من المبالغة في تشنيعهم وتقبـيحِ أمرِهم وكمالِ جرأتهم ما لا يخفى، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ والكتاب في محل الإضمارِ لتهويل ما أقدموا عليه من القول.

السابقالتالي
2