الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

{ هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } شروعٌ في إبطال شُبَهِهم الناشئةِ عما نَطَق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثرَ بـيان اختصاصِ الربوبـية ومناطِها به سبحانه وتعالى تارةً بعد أخرى وكونِ كل مَنْ عداه مقهوراً تحت مَلَكوته تابعاً لمشيئته. قيل: " إن وفدَ نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعُم يا محمد أن عيسى كلمةُ الله وروح منه؟ قال عليه السلام: «بلى» قالوا: فحسبُنا ذلك. فنعىٰ عليهم زيغَهم وفتنتَهم وبـيّن أن الكتابَ مؤسسٌ على أصول رصينةٍ وفروعٍ مَبْنية عليها ناطقةٍ بالحق قاضيةٍ ببطلان ما هم عليه من الضلال " ، والمرادُ بالإنزال القدرُ المشتركُ المجرَّدُ عن الدِلالة على قيد التدريج وعدمِه، ولامُ الكتاب للعهد، وتقديمُ الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناءِ بشأن بشارتِه عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أُنزل، فإن النفسَ عند تأخير ما حقُّه التقديمُ - لا سيما بعد الإشعار برفعة شأنِه أو بمنفعته - تبقىٰ مترقبةً له فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ وليتصل به تقسيمه إلى قسميه { مِنْهُ آيَـٰتٌ } الظرفُ خبر، وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى:وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } [البقرة، الآية 8] الآية، والأولُ أوفقُ بقواعد الصناعة، والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونُهما من الكتاب فتذكّرْ، والجملة مستأنفة في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على هذه الحال منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية { مُّحْكَمَـٰتٌ } صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد، مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها فالمرادُ بالكتابِ كلُّه، والإضافة بمعنى في كما في واحد العشرةِ لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدي إلى كون الكتاب عبارةً عما عدا المحكماتِ، والجملةُ إما صفةٌ لما قبلها أو مستأنفةٌ وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بـيانُ أصليةِ كل واحدةٍ منها أو بـيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى:وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء، الآية 91] وقيل: اكتُفيَ بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر: [الطويل]
بها جِيَفُ الحسْرى فأما عظامُها   فبِـيضٌ وأما جِلْدُها فصَليبُ
أي وأما جلودها { وَأُخَرُ } نعتُ المحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من { مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق، فالتشابه في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف الدالِّ بوصف المدلول، وقيل: لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجِزَ العقل عن التميـيز بـينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يُعلم بعينه، ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضُه من تلك الجهة، وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدِها الرائقة ومعانيها اللائقة المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بـينها وبـين المُحْكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ، وأما قولُه عز وجل:

السابقالتالي
2 3