الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } * { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }

{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ } بـيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بـيانِ حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب، والخطابُ للنبـي صلى الله عليه وسلم على أن المرادَ تثبـيتهُ على ما هو عليه كقوله تعالى:فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذّبِينَ } [القلم، الآية 8] أو على أن المرادَ نهيُ المؤمنين كما يُوجَّهُ الخطابُ إلى مَدارِهِ القومِ ورؤسائِهِم، والمرادُ أفناؤهم، ولكل أحد ممن يصلُح للخطاب من المؤمنين والنهيُ للمخاطب، وإنما جُعل للتقلب مبالغةً أي لا تنظُر إلى ما عليه الكفرةُ من السعة ووفورِ الحظِّ ولا تغترَّ بظاهر ما ترى منهم من التبسّط في المكاسب والمتاجرِ والمزارع. روي أن بعضَ المؤمنين كانوا يرَوْن المشركين في رخاء ولين عيشٍ فيقولون إن أعداءَ اللَّهِ تعالى فيما نرى من الخير وقد هلَكْنا من الجوع والجهد فنزلت. وقرىء لا يغُرَّنك بالنون الخفيفة { مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ } خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هو متاعٌ قليلٌ لا قدرَ له في جنب ما ذُكر من ثواب اللَّهِ تعالى قال عليه السلام: " ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعل أحدُكم أصبَعَه في اليمّ فلينظُر بم يرجِعُ " فإذن لا يُجدي وجودُه لواجديه ولا يضُرُّ فقدانُه لفاقديه { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ } أي مصيرُهم الذي يأوون إليه لا يبرَحونه { جَهَنَّمُ } التي لا يوصف عذابُها وقوله تعالى: { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } ذمٌّ لها وإيذانٌ بأن مصيرَهم إليها مما جنته أنفسُهم وكسبتْه أيديهم، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس ما مَهدوا لأنفسهم جهنَّمُ { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا } بـيانٌ لكمال حسنِ حالِ المؤمنين غِبَّ بـيانٍ وتكريرٌ له إثرَ تقرير مع زيادة خلودِهم في الجنَّاتِ ليتم بذلك سرورُهم ويزدادَ تبجُّحُهم، ويتكاملَ به سوءُ حالِ الكفرةِ.

وإيرادُ التقوى في حيز الصلةِ للإشعار بكون الخصالِ المذكورةِ من باب التقوى، والمرادُ به الاتقاءُ من الشرك والمعاصي، فالموصولُ مبتدأ والظرفُ خبرُه وجناتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو الظرفُ خبرٌ لجناتٌ والجملةُ خبرٌ للموصول، وخالدين فيها أي في الجنات حالٌ مقدرةٌ من الضمير أو من جناتٌ لتخصّصها بالوصف، والعاملُ ما في الظرف من معنى الاستقرارِ { نُزُلاٍ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } وقرىء بسكون الزاي وهو ما يُعدّ للنازل من طعام وشرابٍ وغيرِهما قال أبو الشعر الضبـي: [الطويل]
وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافنا   جعلنا القَنا والمرهفاتِ له نُزْلا
وانتصابُه على الحالية من جناتٌ لتخصصها بالوصف، والعاملُ فيه ما في الظرف من معنى الاستقرارِ، وقيل هو مصدرٌ مؤكدٌ كأنه قيل رِزقاً أو عطاءً من عند الله { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ } مبتدأ وخبرٌ وقوله تعالى: { لّلأبْرَارِ } متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لخيرٌ أي ما عنده تعالى من الأمور المذكورةِ الدائمةِ خيرٌ كائنٌ للأبرار، أي مما يتقلب فيه الفجارُ من المتاع القليلِ الزائلِ، والتعبـيرُ عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفاتِ المعدودَة من أعمال البرِّ كما أنها من قبـيل التقوى، والجملةُ تذيـيل لما قبلها.