الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } الموصولُ إما موصولٌ بأولي الألباب مجرورٌ على أنه نعتٌ كاشفٌ له بما في حيز الصلةِ وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ أو منصوبٌ على المدح، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، وقيل: هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ هو القولُ المقدرُ قبل قولِه تعالى: { رَبَّنَا } ، وفيه من تفكيك النظمِ الجليلِ ما لا يخفى. وأياً ما كان فقد أشير بما في حيز صلتِه أن المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراقِ سرائرِهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم، وإليه أشير بقوله عز وجل: { قِيَـٰماً وَقُعُوداً وعَلَىٰ جُنُوبُهُمْ } ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأناً من شؤونه تعالى، فالمرادُ به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث الصفاتُ والأفعالُ، وسواءٌ قارنه الذكرُ اللسانيُّ أو لا.

وأما ما يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبـير وجماعةٍ رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلىٰ فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضُهم: أما قال الله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً } [آل عمران، الآية 191] فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيـين وإنما أرادوا به التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإتيانِ بفرد من أفرادِ مدلولِها، وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب الاستطاعةِ كما " قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين: " صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومىء إيماءً " فمما لا يساعده سباقُ النظمِ الجليلِ ولا سياقُه.

والقيامُ والقعودُ جمعُ قائمٍ وقاعدٍ كنيام ورُقودٍ جمعُ نائمٍ وراقد، وانتصابُهما على الحالية من ضمير يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين، وقولُه تعالى: { وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين، والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر، وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } عطفٌ على { يَذكرُونَ } منتظمٌ معه في حيِّز الصلةِ فلا محلَّ له من الإعراب، وقيل: محلُّه النصبُ على أنه معطوفٌ على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر، وهو بـيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بـيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وأشار إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقت به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ، فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك، فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل، والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها، فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضىٰ باتصاف خالقِه تعالى بجميع من نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ، وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ، وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك، فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبـيِّ، وهو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلب والقالَب عملاً خاصاً.

السابقالتالي
2 3 4