الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{ لاَ تَحْسَبَنَّ } الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يصلُح له { ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ } أي بما فعلوا كما في قوله تعالى:إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم، الآية 61] ويدل عليه قراءة أُبـيّ: يفرحون بما فعلوا، وقرىء بما آتَوا بمعنى أعطَوا وبما أُوتوا أي بما أوتوه عن علم التوراة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهودُ حرفوا التوراةَ وفرِحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل. روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهودَ عن شيء مما في التوراة فكتموا الحقَّ وأخبروه بخلافه وأرَوْه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرِحوا بما فعلوا، وقيل: فرِحوا بكِتمان النصوصِ الناطقةِ بنبوته عليه الصلاة والسلام، وأحبوا أن يُحمَدوا بأنهم متبعون ملةَ إبراهيمَ عليه السلام. فالموصولُ عبارةٌ عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضِعَ ضميرهم، والجملةُ مَسوقةٌ لبـيان ما تستتبعُه أعمالُهم المحكيةُ من العقاب الأخرويِّ إثرَ بـيانِ قباحتِها، وقد أُدمج فيها بـيانُ بعضٍ آخرَ من شنائعهم وهو إصرارُهم على ما هم عليه من القبائح وفرَحُهم بذلك ومحبتُهم لأن يوصَفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلةِ، وقد نُظم ذلك في سلك الصلةِ التي حقُّها أن تكون معلومةَ الثبوتِ للموصول عند المخاطَبِ إيذاناً بشهرة اتصافِهم بذلك، وقيل: هو قومٌ تخلّفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحةَ في ذلك واستحمدوا به، وقيل: هم المنافقون كافةً وهو الأنسبُ بظاهر قوله تعالى: { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } لشهرةِ أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمانِ وقلوبُهم مطمئنةٌ بالكفر ويستحمِدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألفِ منزلٍ، وكانوا يُظهرون محبةَ المؤمنين وهم في الغاية القاصيةِ من العداوة، فالموصولُ عبارةٌ عن طائفة معهودةٍ من المذكورين وغيرِهم، فإن أكثرَ المنافقين كانوا من اليهود، ولعل الأولى إجراءُ الموصولِ على عمومه شاملاً لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرحُ به فرحَ إعجابٍ ويوَدُّ أن يمدحَه الناسُ بما هو عارٍ منه من الفضائل منتظماً للمعهودين انتظاماً أولياً، وأياً ما كان فهو مفعولٌ أولٌ لتحسبن، وقوله تعالى: { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } تأكيدٌ له والفاءُ زائدةٌ والمفعولُ الثاني قوله تعالى: { بِمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَابِ } أي ملتبسين بنجاة منه، على أن المفازةَ مصدرٌ ميميٌ ولا يضُر تأنيثُها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله: [الطويل]
فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ   عقابَك قد كانوا لنا بالمواردِ
ولا سبـيل إلى جعلها اسمَ مكانٍ على أن الجارَّ متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها أي بمفازة كائنةٍ من العذاب لأنها ليست من العذاب، وتقديرُ فعلٍ خاصٍّ ليصِحَّ به المعنى أي بمفازة مُنْجيةٍ من العذاب ــ مع كونه خلافَ الأصلِ ــ تعسفٌ مستغنىً عنه.

السابقالتالي
2