الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لوعد المؤمنين ووعيدِ المنافقين بالعقوبة الدنيويةِ التي هي الفضيحةُ والخِزْيُ إثرَ بـيانِ عقوبتِهم الأخرويةِ، والمرادُ بالمؤمنين المخلصون، وأما الخطابُ فقد قيل: إنه لجمهور المصدِّقين من أهل الإخلاصِ وأهلِ النفاقِ، ففيه التفاتٌ في ضمن التلوينِ، والمرادُ بما هم عليه اختلاطُ بعضِهم بعضاً واستواؤهم في إجراء أحكامِ الإسلامِ عليهم، إذ هو القدرُ المشترك بـين الفريقين، وقيل: إنه للكفار والمنافقين وهو قولُ ابنِ عباسٍ والضحاكِ ومقاتلٍ والكلبـيِّ وأكثرِ المفسرين، ففيه تلوين فقط، ولعل المنافقين عطفٌ تفسيريٌ للكفار وإلا فلا شركةَ بـين المؤمنين والمنافقين في أمر من الأمور، والمرادُ بما هم عليه ما مر من القدر المشتركِ فإنه كما يجوز نسبتُه إلى الفريقين معاً يجوز نسبتُه إلى كل منهما لا الكفرُ والنفاقُ كما قيل، فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم في ذلك حتى لا يُتركوا عليه، وقيل: إنه للمؤمنين خاصة وهو قولُ أكثرِ أهلِ المعاني ففيه تلوينٌ والتفاتٌ كما مر، والتعرضُ لإيمانهم قبل الخطابِ للإشعار بعلة الحُكم، والمرادُ بما هم عليه ما مر غيرَ مرةٍ، والأولُ هو الأقربُ وإليه جنَح المحقِّقون من أهل التفسير لكونه صريحاً في كون المرادِ بما هم عليه ما ذُكر من القدر المشتركِ بـين الفريقين من حيث هو مشترَكٌ بـينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك، كيف لا والمفهومُ مما عليه المنافقون هو الكفرُ والنفاقُ، ومما عليه المؤمنون هو الإيمانُ والإخلاصُ لا القدرُ المشتركُ بـينهما، ولئن فُهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتسابُ إلى أحدهما لا من حيث الانتسابُ إليهما معاً، وعليه يدور أمرُ الاختلاطِ المُحوِجِ إلى الإفراز.

واللام في ليذر إما متعلقةٌ بالخبر المقدّرِ لكان كما هو رأيُ البَصْريةِ، وانتصابُ الفعل بعدها بأن المقدرةِ أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يذَرَ المؤمنين الخ، ففي توجيهِ النفيِ إلى إرادة الفعلِ تأكيدُ مبالغةٍ ليست في توجيهه إلى نفسه، وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية، ولا يقدح في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجرِّ في عملها. وقوله عز وجل: { حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ } غايةٌ لما يفيده النفيُ المذكورُ كأنه قيل: ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاطِ بل يقدِّر الأمورَ ويرتب الأسبابَ حتى يعزِلَ المنافقَ من المؤمن، وفي التعبـير عنهما بما ورد به النظمُ الكريمُ تسجيلٌ على كلَ منهما بما يليق به، وإشعارٌ بعلة الحُكمِ. وإفرادُ الخبـيثِ والطيبِ مع تعددهما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكرِ ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمعِ للإيذان بأن مدارَ إفرازِ أحدِ الفريقين من الآخر هو اتصافُهما بوصفهما لا خصوصيةُ ذاتِهما وتعددُ آحادِهما كما في مثل قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3