الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

{ وَمَا كَانَ لِنَبِىّ } أي وما صح لنبـي من الأنبـياء ولا استقام له { أَنْ يَغُلَّ } أي يخونَ في المغنم فإن النبوةَ تنافيه منافاةً بـيِّنة، يقال: غَلَّ شيئاً من المغنم يغُل غلولاً وأَغل إغلالاً إذا أخذه خُفْيةً. والمرادُ إما تنزيهُ ساحةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما ظن به الرماةُ يومَ أحُدٍ حين تركوا المركزَ وأفاضوا في الغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقولَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسِمَ الغنائمَ كما لم يقسمْها يوم بدرٍ، فقال لهم النبـيُّ صلى الله عليه وسلم: " " ألم أعهَدْ إليكم أن لا تترُكوا المركزَ حتى يأتيَكم أمري؟ " فقالوا: تركنا بقيةَ إخوانِنا وقوفاً، فقال عليه السلام: " بل ظننتم أنا نغُلّ ولا نقسِمُ بـينكم " وإما المبالغةُ في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رُوي أنه بعث طلائِعَ فغنِم النبـيُّ صلى الله عليه وسلم بعدهم غنائِمَ فقسمها بـين الحاضرين ولم يترك للطلائع شيئاً فنزلت. والمعنى ما كان لنبـي أن يعطيَ قوماً من العسكر ويمنَعَ آخَرين بل عليه أن يقسِمَ بـين الكلِّ بالسوية، وعُبّر عن حِرمان بعضِ الغزاةِ بالغُلول تغليظاً. وأما ما قيل من أن المرادَ تنزيهُه عليه السلام عما تفوَّه به بعضُ المنافقين إذ رُوي: «أن قَطيفةً حمراءَ فقدت يوم بدر فقال بعضُ المنافقين: لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذها» فبعيدٌ جداً، وقرىء على البناء للمفعول والمعنى ما كان له أن يوجَدَ غالاًّ أو يُنسَبَ إلى الغُلول.

{ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } يأتِ بالذي غله بعينه يحمِلُه على عنُقه كما ورد في الحديث الشريف وروي أنه عليه السلام قال: " ألا لاَ أعْرِفَنَّ أحدَكُم يأتي ببعير له رُغاءٌ وببقرةٍ لها خُوارٌ وبشاة لها ثُغاءٌ فينادي يا محمد فأقول: لا أملِك لك من الله شيئاً فقد بلّغتُك " أو يأتِ بما احتمل من إثمه ووبالِه { ثُمَّ توفَّى كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي تُعطىٰ وافياً جزاءَ ما كسبت خيراً أو شراً كثيراً أو يسيراً، ووضعُ المكسوبِ موضعَ جزائِه تحقيقاً للعدْل ببـيان ما بـينهما من تمام التناسُبِ كمّاً وكيفاً كأنهما شيءٌ واحد. وفي إسناد التَوْفيةِ إلى كل كاسبٍ وتعليقِها بكل مكسوبٍ ــ مع أن المقصودَ بـيانُ حالِ الغالِّ عند إتيانِه بما غله يوم القيامة ــ من الدلالة على فخامة شأنِ اليومِ وهولِ مطلَعِه والمبالغةِ في بـيان فظاعةِ حالِ الغالِّ ما لا يخفى، فإنه حيث وُفيّ كلُّ كاسبٍ جزاءَ ما كسبه ولم يُنْقَصْ منه شيءٌ، وإن كان جُرْمُه في غاية القِلّة والحقارةِ، فلأَنْ لا يُنقَصَ من جزاء الغالِّ شيءٌ وجُرمُه من أعظم الجرائم أظهرُ وأجلى { وَهُمْ } أي كلُّ الناسِ المدلولِ عليهم بكل نفس { لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة عقابٍ أو بنقص ثواب.