الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ }

{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ } أي تتمنُّون الحربَ فإنها من مبادىء الموتِ، أو الموتَ بالشهادة، والخطابُ للذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنَّوْن أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما ناله شهداءُ بدرٍ من الكرامة فألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ثم ظهر منهم خلافُ ذلك { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } متعلقٌ بتَمنَّون مبـينٌ لسبب إقدامِهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوه وتعرِفوا هولَه وشدَّته، وقرىء تلاقوه { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أي ما تتمنَّونه من أسباب الموتِ، أو الموتَ بمشاهدة أسبابِه، وقولُه تعالى: { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } حال من ضمير المخاطبـين، وفي إيثار الرؤيةِ على الملاقاة وتقيـيدِها بالنظر مزيدُ مبالغةٍ في مشاهدتهم له، والفاءُ فصيحةٌ كأنه قيل: إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتُموه معاينين له حين قُتل بـين أيديكم مَنْ قُتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تُقتلوا فلِمَ فعلتم ما فعلتم؟ وهو توبـيخٌ لهم على تمنِّيهم الحربَ وتسبُّبهم لها ثم جُبنِهم وانهزامِهم، لا على تمني الشهادةِ بناءً على تضمُّنها لغلَبة الكفارِ، لما أن مطلبَ من يتمنّاها نيلُ كرامةِ الشهداءِ من غير أن يخطرُ بباله شيءٌ غيرُ ذلك فلا يستحِقُّ العتابَ من تلك الجهة.

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } مبتدأٌ وخبرٌ ولا عمل لما بالاتفاق، لانتقاض نفيِه بإلا وقوله تعالى: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } صفةٌ لرسول منبئةٌ عن كونه في شرف الخُلوِّ، فإن خلوَّ مشاركيه في منصِب الرسالةِ من شواهد خلوِّه عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثالُه فسيخْلو كما خلَوْا، والقصرُ قلبـيٌّ، فإنهم لمّا انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاة والسلام رسولٌ لا كسائر الرسلِ في أنه يخلو كما خلَوْا، أو يجب التمسكُ بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدَهم فرُدَّ عليهم بأنه ليس إلا رسولاً كسائر الرسلِ، فسيخلو كما خلَوْا ويجب التمسكُ بدينه كما يجب التمسكُ بدينهم، وقيل: هو قصرُ إفرادٍ فإنهم لما استعظموا عدمَ بقائِه عليه الصلاة والسلام لهم نُزِّلوا منزلةَ المستبعِدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام وصفَيْن: الرسالة والبعدَ عن الهلاك فرُدَّ عليهم بأنه مقصورٌ على الرسالة لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذ من جعل قوله تعالى: { قَدْ خَلَتْ } الخ، كلاماً مبتدأً مَسوقاً لتقرير عدمِ براءتِه عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبـيانِ كونِه أُسوةً لمن قبله من الرسل عليهم السلام وأياً ما كان فالكلامُ يخرج على خلاف مقتضىٰ الظاهرِ { أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ } إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم عن الدين بخُلوِّه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبله وبقاءِ دينِهم متمسَّكاً به، وقيل: الفاءُ للسببـية والهمزةُ لإنكار أن يجعلوا خُلوَّ الرسلِ قبله سبباً لانقلابهم بعد وفاتِه مع كونه سبباً في الحقيقة لثباتهم على الدين، وإيرادُ الموتِ بكلمة إن مع علمهم به اْلبتةَ لتنزيل المخاطَبـيـين منزلةَ المتردِّدين فيه لما ذُكر من استعظامهم إياه، وهكذا الحالُ في سائر المواردِ فإن كلمةَ إنْ في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها قطُّ ضرورة علمِه تعالى بالوقوع أو اللاوقوعِ، بل تُحملُ على اعتبار حالِ السامعِ أو أمرٍ آخرَ يناسب المقامَ، وتقديمُ تقديرِ الموتِ مع أن تقديرَ القتلِ هو الذي ثار منه الفتنةُ وعظُم فيه المحنةُ لِما أن الموتَ في شرف الوقوعِ فزجرُ الناسِ عن النُكوص عنده وحملُهم على التثبُّت هناك أهمُّ، ولأن الوصفَ الجامعَ بـينه وبـين الرسلِ عليهم السلام وهو الخلوُّ بالموت دون القتل.

السابقالتالي
2 3