الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ }

{ زُيّنَ لِلنَّاسِ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لبـيان حقارةِ شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيدٌ للناس فيها وتوجيهٌ لرغباتهم إلى ما عنده تعالى إثرَ بـيانِ عدم نفعِها للكفرة الذين كانوا يتعزّزون بها والمرادُ بالناس الجنس { حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ } الشهوة نزوعُ النفس إلى ما تريده والمراد هٰهنا المشتهَيات، عبّر عنها بالشهوات مبالغةَ كونِها مشتهاةً مرغوباً فيها كأنها نفسُ الشهوات أو إيذاناً بانْهماكِهم في حبها بحيث أحبوا شهواتِها كما في قوله تعالى:إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ } [ص، الآية 32] أو استرذالاً لها فإن الشهوة مسترذَلةٌ مذمومة من صفات البهائم، والمزيِّنُ هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو الخالقُ لجميع الأفعال والدواعي والحكمةُ في ذلك ابتلاؤهم، قال تعالى:إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [الكهف، الآية 7] الآية، فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كونِ تعاطيها على نهج الشريعةِ الشريفة ووسيلةً إلى بقاء النوع، وإيثارُ صيغة المبني للمفعول للجري على سَنن الكبرياء، وقرىء على البناء للفاعل وقيل: المزيِّنُ هو الشيطان لما أن مساقَ الآية الكريمة على ذمها. وفرّق الجبائيّ بـين المباحات فأسند تزيـينها إليه تعالى، وبـين المحرمات فنسب تزيـينها إلى الشيطان { مِنَ ٱلنّسَاء وَٱلْبَنِينَ } في محل النصب على أنه حال من الشهوات وهي مفسِّرة لها في المعنى، وقيل: { مِنْ } لبـيان الجنس وتقديمُ النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائلُ الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطّراد في حبهن { وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ } جمعُ قِنطار وهو المالُ الكثير، وقيل: مائةُ ألفِ دينار وقيل: ملءُ مَسْكِ ثور، وقيل: سبعون ألفاً وقيل: أربعون ألفَ مثقالٍ، وقيل: ثمانون ألفاً وقيل: مائةُ رِطل وقيل: ألفٌ ومِائتَا مثقالٍ، وقيل: ألفُ دينار وقيل: مائة قنطار ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل: ديةُ النفس واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال، ولفظُ (المقنطرة) مأخوذ منه للتأكيد كقولهم: بَدْرةٌ مُبدَرة، وقيل: المقنطرة المحْكمة المحْصنة، وقيل: الكثيرة المُنضّدة بعضُها على بعض أو المدفونة المضروبة المنقوشة.

{ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } بـيان للقناطير أو حال { وَٱلْخَيْلِ } عطف على القناطير وقيل: هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط، والواحد فرس وقيل: واحدُه خائل وهو مشتق من الخُيلاء { ٱلْمُسَوَّمَةِ } أي المُعْلمة من السِمة وهي العلامة أو المرْعيّة من أسام الدابة وسوَّمها إذا أرسلها وسيَّبها للرعي أو المُطَهّمة التامةُ الخَلقْ { وَٱلأَنْعَـٰمِ } أي الإبل والبقر والغنم { وَٱلْحَرْثِ } أي الزرع مصدر بمعنى المفعول.

{ ذٰلِكَ } أي ما ذكر من الأشياء المعهودة { مَّتَاعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي ما يُتمتّع به في الحياة الدنيا أياماً قلائلَ فتفنىٰ سريعاً { وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمَأَبِ } حسنُ المرجِع، وفيه دلالةٌ على أن ليس فيما عُدّد عاقبةٌ حميدة، وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسنادِ الجملة الظرفية إليه زيادةُ تأكيدٍ وتفخيم ومزيدُ اعتناء بالترغيب فيما عند الله عز وجل من النعيم المقيم، والتزهيدُ في ملاذّ الدنيا وطيباتها الفانية.