الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } * { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ } أي هدرُ النفسِ والمالِ والأهلِ وذلُّ التمسكِ بالباطل { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } أي وُجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ٱلنَّاسِ } استثناءٌ من أعم الأحوال أي ضربت عليهم الذلةُ ضربَ القُبةِ على مَنْ هي عليه في جميع الأحوال إلا حالَ كونِهم معتصمين بذمة الله أو كتابِه الذي أتاهم وذمةِ المسلمين أو بذمة الإسلام واتباعِ سبـيلِ المؤمنين { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ٱللَّهِ } أي رجعوا مستوجبـين له، والتنكيرُ للتفخيم والتهويل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لغضب مؤكدةً لما أفاده التنكيرُ من الفخامة والهول أي كائنٍ من الله عز وجل { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ } فهي محيطةٌ بهم من جميع جوانبِهم واليهودُ كذلك في غالب الحالِ مساكينُ تحت أيدي المسلمين والنصارى.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من ضَرْب الذِلةِ والمسكنةِ عليهم والبَوْءِ بالغضب العظيم { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } أي ذلك الذي ذكر كائنٌ بسبب كفرِهم المستمرِّ بآياتِ الله الناطقةِ بنبوة محمدٍ عليه الصلاة والسلام وتحريفِهم لها وبسائر الآياتِ القرآنية { وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ } أي في اعتقادهم أيضاً، وإسناد القتلِ إليهم مع أنه فعلُ أسلافِهم لرضاهم به كما أن التحريفَ مع كونه من أفعال أحبارِهم يُنسَبُ إلى كل من يسير بسيرتهم { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذُكر من الكفر والقتل { بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي كائنٌ بسبب عصيانِهم واعتدائِهم حدودَ الله تعالى على الاستمرار فإن الإصرارَ على الصغائر يُفضي إلى مباشرة الكبائِر والاستمرارَ عليها يؤدي إلى الكفر، وقيل: معناه أن ضربَ الذلةِ والمسكنةِ في الدنيا واستيجابَ الغضبِ في الآخرة كما هو معلَّلٌ بكفرهم وقتلِهم فهو مسبَّبٌ عن عصيانهم واعتدائِهم من حيث إنهم مخاطَبون بالفروع من حيث المؤاخذة { لَيْسُواْ سَوَاء } جملةٌ مستأنفة سيقت تمهيداً لتعداد محاسِن مؤمني أهلِ الكتابِ وتذكيراً لقوله تعالى:مّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران، الآية 110] والضميرُ في ليسوا لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسمُ ليس وخبرُه سواءً، وإنما أُفرد لأنه في الأصل مصدرٌ والمرادُ بنفي المساواةِ نفيُ المشاركةِ في أصل الاتصافِ بالقبائح المذكورةِ لا نفيُ المساواةِ في مراتب الاتصافِ بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصافِ بها أي ليس جميعُ أهل الكتابِ متشاركين في الاتصاف بما ذُكر من القبائح والابتلاءِ بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى: { مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } استئنافٌ مبـينٌ لكيفية عدمِ تساويهم، ومزيل لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى:تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } [آل عمران، الآية 110] الآية، مبـينٌ لقوله تعالى:كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران، الآية 110] الخ، ووضعُ أهلِ الكتابِ موضعَ الضميرِ العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراكُ بـين الفرقين والإيذانِ بأن تلك الأمةَ ممن أوتي نصيباً وافراً من الكتاب لا من أراذلهم.

السابقالتالي
2