الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

وقوله عز وجل: { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ } أي بدين الإسلامِ أو بكتابه لقوله عليه الصلاة والسلام: " القرآنُ حبلُ الله المتينُ لا تنقضي عجائبُه ولا يخلَقُ من كثرة الردِّ، مَنْ قال به صدَقَ، ومن عمِل به رَشَد، ومن اعتصم به هُديَ إلى صراط مستقيم " إما تمثيلٌ للحالة الحاصلةِ من استظهارهم به ووثوقِهم بحمايته بالحالة الحاصلةِ من تمسك المتدلي من مكان رفيعٍ بحبل وثيقٍ مأمونِ الانقطاعِ من غير اعتبار مجازٍ في المفردات، وإما استعارةٌ للحبل لما ذُكر من الدين أو الكتابِ أو الاعتصامِ ترشيحٌ لها أو مستعارٌ للوثوق به والاعتمادِ عليه { جَمِيعاً } حال من فاعل اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلافِ بـينكم كأهل الكتابِ أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضُكم بعضاً أو لا تُحدِثوا ما يوجب التفرقَ ويُزيل الأُلفةَ التي أنتم عليها { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } مصدر مضافٌ إلى الفاعل، وقولُه تعالى: { عَلَيْكُمْ } متعلق به أو بمحذوف وقع حالاً منه وقوله تعالى: { إِذْ كُنتُم } ظرفٌ له أو للاستقرار في عليكم أي اذكروا إنعامَه عليكم أوِ اذْكُروا إنعامَه مستقِراً عليكم وقت كونِكم { أَعْدَاء } في الجاهلية بـينكم الإحَنُ والعداواتُ والحروبُ المتواصلة، وقيل: هم الأوسُ والخزرجُ كانا أخوَين لأب وأمٍ فوقعت بـين أولادِهما العداوةُ والبغضاءُ وتطاولت الحروبُ فيما بـينهم مائةً وعشرين سنةً { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بتوفيقكم للإسلام { فَأَصْبَحْتُم } أي فصِرْتم { بِنِعْمَتِهِ } التي هي ذلك التأليفُ { إِخْوَانًا } خبرُ أصبحتم أي إخواناً متحابّـين مجتمعين على الأُخوّة في الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحقِّ وقيل: معنى فأصبحتم فدخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وكذا إخواناً أي فأصبحتم ملتبسين حالَ كونِكم إخواناً.

{ وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ } شفا الحفرةِ وشفَتُها حَرْفها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنَّم لكفركم إذ لو أدرككم الموتُ على تلك الحالةِ لوقعتم فيها { فَأَنقَذَكُمْ } بأن هداكم للإسلام { مِنْهَا } الضميرُ للحفرة أو للنار أو للشَفا والتأنيثُ للمضاف إليه كما في قوله: [الطويل]
[وتَشْرَقُ بالقولِ الذي أذعْتُهُ]   كما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
أو لأنه بمعنى الشَّفة فإن شَفا البئرِ وشفَتَها جانبُها كالجانب والجانبة، وأصلُه شَفَوٌ قلبت الواوُ ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث { كَذٰلِكَ } إشارةٌ إلى مصدر الفعل الذي بعده، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجةِ المشارِ إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزِه به عما عداه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة، والكافُ مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُّها النصبُ على أنها صفةٌ لمصدر محذوف أي مثلَ ذلك التبـيـينِ الواضحِ { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ } أي دلائلَه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } طلباً لثباتكم على الهدى وازديادِكم فيه.