الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } * { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }

{ وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } إشارةُ تحقيرٍ وازدراءٍ للدُّنيا وكيفَ لا وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بَعُوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شَرْبةَ ماءٍ " { إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي إلا كما يُلهى ويلعبُ به الصبـيانُ يجتمعون عليهِ ويبتهجون به ساعةً ثم يتفرَّقُون عنه { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } أي لهيَ دارُ الحياةِ الحقيقية لامتناعِ طريانِ الموتِ والفناءِ عليها أو هي في ذاتِها حياةٌ للمبالغةِ. والحيوانُ مصدرُ حَيِـيَ سُمِّيَ بهِ ذُو الحياة وأصلُه حَيَـيانُ فقُلبتْ الياءُ الثَّانيةُ واواً لما في بناءِ فَعَلان من مَعْنى الحَرَكةِ والاضطرابِ اللازم للحَيَوان ولذلك اختِير على الحياةِ في هذا المقامِ المُقتضي للمبالغةِ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لما آثرُوا عليها الحياةَ الدُّنيا التي أصلُها عدمُ الحياةِ ثمَّ ما يحدثُ فيها من الحَيَاةِ عارضةٌ سريعةُ الزَّوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ } متَّصلٌ بما دلَّ عليه شرحُ حالِهم، والرُّكوب هو الاستعلاءُ على الشيءِ المتحرِّكِ وهو متعدَ بنفسِه كما في قولِه تعالى:وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } [سورة النحل: الآية 8] واستعمالُه هٰهنا وفي أمثالِه بكلمة في للإيذانِ بأنَّ المركوبَ في نفسِه من قبـيلِ الأمكنةِ، وحركتُه قسريةٌ غيرُ إراديةٍ كما مرَّ في سورةِ هُودٍ والمعنى أنَّهم على ما وُصفوا من الإشراكِ فإذا ركبُوا في البحرِ ولقُوا شدَّةً { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } أي كائنينَ على صورةِ المُخلصين لدينِهم من المؤمنينَ حيثُ لا يدعُون غيرَ الله تعالى لعلمِهم بأنَّه لا يكشفُ الشَّدائدَ عنهم إلا هُو { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } أي فاجؤا المعاودةَ إلى الشِّركِ { لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتَيْنَـٰهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } أي يفاجئونَ الإشراكَ ليكونُوا كافرينَ بما آتيناهُم من نعمةِ الإنجاءِ التي حقُّها أنْ يشكرُوها { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي عاقبةَ ذلكَ وغائلتَه حينَ يَرَون العذابَ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا { أَنَّا جَعَلْنَا } أي بلدَهم { حَرَماً ءامِناً } مصُوناً من النَّهبِ والتَّعدِّي سالماً أهلُه من كلِّ سوءٍ { وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } أي والحالُ أنَّهم يُختلسون من حولِهم قتلاً وسبـياً إذ كانتِ العربُ حولَه في تغاورٍ وتناهُبٍ { أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ } أي أبعد ظهورِ الحقِّ الذي لا ريبَ فيه بالباطلِ خاصَّة يُؤمنون دُون الحقِّ { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } وهي المستوجبةُ للشُّكرِ حيثُ يُشركون به غيرَهُ. وتقديمُ الصِّلةِ في الموضعينِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما فعلُوا { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } بأنْ زعمَ أنَّ له شريكاً أي هو أظلمُ من كلِّ ظالمٍ وإنْ كانَ سبكُ النَّظمِ دالاًّ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفيِ المُساوي وقد مرَّ مراراً { أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُ } أي بالرَّسولِ أو بالقُرآنِ وفي لمَّا تسفيهٌ لهم بأنْ لم يتوقفُوا ولم يتأمَّلوا حينَ جاءَهم بل سارعُوا إلى التَّكذيبِ آثر ذي أثيرٍ { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَـٰفِرِينَ } تقريرٌ لثُوائِهم فيها كقولِ من قالَ: [الوافر]
ألستُم خيرَ من رَكبَ المَطَايا   [وأنْدَى العالَمِينَ بُطُونَ راحِ]
أي أَلاَ يستوجبونَ الثَّواء فيها وقد فعلُوا ما فعلُوا من الافتراءِ على الله تعالى والتَّكذيبِ بالحقِّ الصَّريحِ أو إنكارٌ واستبعادٌ لاجترائِهم على ما ذُكر من الافتراءِ والتَّكذيبِ مع علمِهم بحالِ الكَفَرةِ أي ألم يعلمُوا أن في جهنَّم مثوى للكافرين حتَّى اجترؤا هذه الجرأةَ.