الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ }

{ وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } طرداً وإبعاداً من الرَّحمةِ ولعناً من اللاعنينَ حيثُ لا يزالُ يلعنُهم الملائكةُ عليهم الصَّلاة والسَّلام والمؤمنون خَلَفاً عن سَلَفٍ { وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } من المطرُودينِ المُبعدينَ وقيل من الموسُومين بعلامةٍ منكرةٍ كزرقةِ العُيون وسوادِ الوجهِ قالَه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. يُقال قبَّحه الله وقبَحه إذا جعلَه قبـيحاً وقال أبوُ عُبـيدةَ: من المقبُوحين من المُهلكينَ ويومَ القيامةِ إمَّا متعلقٌ بالمقبوحينَ على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي أو بمحذوفٍ يُفسره ذلك كأنَّه قيل: وقُبحوا يومَ القيامةِ نحولعملِكم من القالينَ } [سورة الشعراء: الآية 168] { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ } أي التوراةَ { مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ } هم أقوامُ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السَّلام، والتَّعرض لبـيانِ كونِ إيتائها بعدَ إهلاكِهم للإشعارِ بمساس الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه تمهيداً لما يعقبُه من بـيانِ الحاجةِ الدَّاعية إلى إنزالِ القُرآن الكريمِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ إهلاكَ القُرون الأُولى من موجباتِ اندراسِ معالمِ الشَّرائعِ وانطماسِ آثارِها وأحكامِها المؤديـينِ إلى اختلالِ نظامِ العالمِ وفسادِ أحوالِ الأُمم المستدعيـينَ للتشريعِ الجديدِ بقريرِ الأُصولِ الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ وترتيب الفروعِ المتبدلة بتبدلِ العُصور وتذكير أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجبةِ للاعتبارِ كأنَّه قيلَ ولقد آتينَا مُوسى التوراةَ على حين حاجةٍ إلى إيتائِها { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي أنواراً لقلوبِهم تبصرُ الحقائقَ وتميزُ بـين الحقِّ والباطلِ حيثُ كانتْ عُمياً عن الفهمِ والإداركِ بالكُلِّية فإنَّ البصيرةَ نورُ القلبِ الذي به يستبصرُ كما أنَّ البصرَ نورُ العينِ الذي به تبصرُ { وَهَدَىٰ } أي هدايةً إلى الشَّرائعِ والاحكامِ التي هي سُبلُ الله تعالى { وَرَحْمَةً } حيثُ ينالُ من عملَ به رحمةَ الله تعالى. وانتصابُ الكلِّ على الحاليَّةِ من الكتابِ على أنَّه نفسُ البصائرِ والهُدى والرَّحمة أو على حذفِ المضافِ أي ذَا بصائرَ إلخ وقيل على العلَّة أي آتيناهُ الكتابَ للبصائرِ والهُدى والرَّحمةِ { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ليكونُوا على حالٍ يُرجى منه التَّذكرُ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في ذلك عند قولِه تعالى:لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [سورة البقرة: الآية 21]

وقولُه تعالى: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ } شروعٌ في بـيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضاً واقعٌ في زمانِ شدَّة مساسِ الحاجةِ إليه واقتضاءِ الحكمةِ له البتةَ وقد صدرَ بتحقيقِ كونِه وحياً صادقاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ ببـيانِ أنَّ الوقوفَ على ما فُصِّل من الأحوال لا يتسنَّى إلا بالمشاهدةِ أو التعلُّمِ ممَّن شاهدَها وحيثُ انتفى كلاهُما تبـينَ أنَّه بوحيٍ من علاَّمِ الغُيُوبِ لا محالةَ على طريقةِ قولِه تعالى:وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [سورة آل عمران: الآية 44] الآيةَ أيْ وما كنتَ بجانبِ الجبلِ الغربِّـي أو المكانِ الغربـيِّ الذي وقعَ فيه الميقاتُ على حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصِّفةِ مُقامَهُ أو الجانبِ الغربِّـي على إضافةِ الموصُوفِ إلى الصِّفةِ كمسجدِ الجامعِ. { إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } أي عهدنَا إليهِ وأحكمَنا أمرَ نبوَّتِه بالوحي وإتياءِ التَّوراةِ { وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي من جُملة الشاهدينَ للوحي وهم السبعونَ المختارون للميقاتِ حتَّى تشاهدَ ما جرى من أمرِ مُوسى في ميقاتِه وكتبةِ التَّوراةِ له في الألواحِ فتخبَره للنَّاسِ.