الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا } قيل هي كُبراهما واسُمها صفُوراءُ أو صفراءُ وقيل: صُغراهما واسمُها صُفيراءُ أي جاءتْهُ عقيبَ ما رَجَعتا إلى أبـيهما. رُوي أنَّهما لما رجعتَا إلى أبـيهما قبلَ النَّاسِ وأغنامُهما حُفلٌ بطانٌ قال لُهما ما أعجلَكُما قالتَا وجدنَا رجلاً صالحاً رحمنَا فسقَىَ لنا فقالَ لإحداهُما اذهبـي فادعيِه لي. وقولُه تعالى: { تَمْشِي } حالٌ من فاعل جاءتْ. وقوله تعالى: { عَلَى ٱسْتِحْيَاء } متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من ضميرِ تمشي أي جاءتْه تمشِي كائنةً على استحياءٍ فمعَناهُ أنَّها كانتْ على حالتي المَشي والمجيءِ معاً لا عندَ المجيءِ فقط. وتنكيرُ استحياءٍ للتفخيمِ، قيل جاءتْه متخفرةً أي شديدةَ الحياءِ وقيل قد استترتْ بكُمِّ دِرعِها { قَالَتْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيئِها إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ له عليه الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالتْ { إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي جزاءَ سقيكَ لنا أسندتِ الدَّعوةَ إلى أبـيها وعلَّلتها بالجزاءِ لئلاَّ يُوهمَ كلامُها ريبةً. وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ العقلِ والحياءِ والعفَّةِ ما لا يخَفْى. رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أجابَها فانطلَقا وهي أمامه فألزقتِ الرِّيحُ ثوبَها بحسدِها فوصفتْهُ فقال لها أمشِي خلفي وانعَتي لي الطريقَ ففعلتْ حتَّى أتيا دارَ شُعيب عليهما السَّلامُ { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ } أي ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ فإنَّه مصدرٌ سُمِّيَ به المفعولُ كالعللِ.

{ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الذي يلوحُ من ظاهرِ النَّظْمِ الكريمِ أنَّ موسى عليه السَّلام إنَّما أجابَ المستدعيةَ من غيرِ تلعثُمٍ ليتبرَّكَ برؤيةِ شعيبٍ عليه السَّلام ويستظهرَ برأيهِ لا يأخذَ بمعروفِه أجراً حسبَما صرَّحتْ به. ألا يُرى إلى ما رُوي أنَّ شُعيباً لما قدَّمَ إليه طعاماً قال إنَّا أهلُ بـيتٍ لا نبـيع ديننا بطِلاعِ الأرضِ ذهباً ولا نأخذُ على المعروفِ ثمناً ولم يتناولْ حتَّى قال شُعيبٌ عليه السَّلام: هذهِ عادتُنا مع كلِّ مَن ينزلُ بنا فتناولَ بعد ذلكَ على سبـيلِ التقبلِ لمعروفٍ مُبتدأٍ كيف لا وقد قصَّ عليه قصصَهُ وعرَّفَهُ أنَّه من بـيتِ النُّبوةِ من أولادِ يعقوبَ عليه السَّلامِ ومثله حَقيقٌ بأنْ يُضيَّفَ ويكرَّمَ لا سيَّما في دارِ نبـيَ من أنبـياءِ الله تعالى عليهم الصَّلاة والسَّلام وقيل ليس بمستنكرٍ منه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقبلَ الأجرَ لاضطرارِ الفقرِ والفاقةِ. وقد رُوي عن عطاءِ بن السَّائبِ أنَّه عليهِ السَّلامُ رفعَ صوتَهُ بدعائِه ليُسمَعها ولذلك قيلَ له ليجزَيك الخ ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما فعلَه ليكونَ ذريعة إلى استدعائِه لاستيفاء الأجرِ.