الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } * { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } * { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } * { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ }

{ قَالَتْ } كُررتْ حكايةُ قولِها للإيذانِ بغايةِ اعتنائِها بما في حيزه من قولِها { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأ أَفْتُونِى فِى أَمْرِي } أي أجيبونِي في أمرِي الذي حَزَبني وذكرتُ لكم خُلاصتَه، وعبرتْ عن الجوابِ بالفَتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرونَ على حلِّ المشكلاتِ المُلمَّةِ. وقولُها { مَا كُنتُ قَـٰطِعَةً أَمْراً } أي من الأمورِ المتعلقةِ بالملكِ { حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } أي إلا بمحضرِكم وبموجبِ آرائِكم استعطافاً لهم واسمالةً لقلوبِهم لئلاَّ يخالفُوها في الرَّأي والتدبـير.

{ قَالُواْ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ قولِها كأنَّه قيل: فمَاذا قالُوا في جوابِها فقيلَ قالُوا { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } في الأجسادِ والآلاتِ والعُددِ { وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي نجدةٍ وشجاعةٍ مفرطةٍ وبلاءٍ في الحربِ { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ } أي هو موكولٌ إليكِ { فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ } ونحنُ مطيعونَ لكِ فمُرينا بأمرِك نمتثلْ به ونتبعْ رأيكِ أو أرادوا نحنُ من أبناءِ الحربِ لا من أبناءِ الرأي والمشورةِ وإليكِ الرَّأي والتَّدبـيرِ فانظرِي ماذا ترينَ نكنْ في الخدمةِ فلَّما أحسَّتْ منهم الميلَ إلى الحرابِ والعدولَ عن سَنَنِ الصَّوابِ شرعتْ في تزيـيف مقالتِهم المبنيةِ على الغفلةِ عن شأنِ سليمانَ عليه السَّلامُ.

وذلك قولُه تعالى: { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } من القُرى على منهاجِ المقاتلةِ والحرابِ { أَفْسَدُوهَا } بتخريبِ عماراتِها وإتلافِ ما فيها من الأموالِ { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } بالقتلِ والأسرِ والإجلاءِ وغيرِ ذلك من فُنونِ الإهانةِ والإذلالِ { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } تأكيدٌ لما وصفتْ من حالِهم بطريقِ الاعتراضِ التذيـيليِّ وتقريرٌ له بأنَّ ذلك عادتُهم المستمرةُ. وقيل تصديقٌ لها من جهةِ الله تعالى على طريقةِ قولِه تعالى:وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [سورة الكهف: الآية 109] إثرَ قولِه:لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى } [سورة الكهف: الآية 109].

{ وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } تقريرٌ لرأيها بعدَ ما زيفتْ آراءَهم وأتتْ بالجملةِ الاسميةِ الدالَّةِ على الثباتِ المصدرةِ بحرفِ التحقيق للإيذانِ بأنَّها مزمعةٌ على رأيها لا يَلْويها عنه صارفٌ ولا يَثْنيها عاطفٌ أيْ وإنِّي مرسلةٌ إليهم رُسُلاً بهديةٍ عظيمة { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ } حتَّى أعملَ بما يقتضيهِ الحالُ. رُوي أنَّها بعثت خمسمائةِ غلامٍ عليهم ثيابُ الجَوَاري وحليُّهن الأساورُ والأطواقُ والقِرَطةُ راكبى خيلٍ مغشَّاةٍ بالديباجِ محلاَّةِ اللُّجمِ والسُّروجِ بالذهبِ المُرَّصعِ بالجواهرِ وخمسمائةِ جاريةٍ على رِماك في زيِّ الغلمانِ وألفَ لبنةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وتاجاً مكللاً بالدرِّ والياقوتِ المرتفعِ والمسكِ والعنبرِ وحُقَّاً فيه درةٌ عذراءُ وجزعة معوجة الثقبِ وبعثتْ رجلاً من أشرافِ قومِها المنذرَ بنَ عمروٍ وآخرَ ذَا رأيٍ وعقلٍ. وقالتْ: إنْ كانَ نبـياً ميَّز بـين الغلمانِ والجوارِي وثقبَ الدرةَ ثقباً مستوياً وسلك في الخرزةِ خيطاً، ثمَّ قالتْ للمنذرِ إنْ نظرَ إليكَ نظرَ غضبانَ فهو ملكٌ فلا يَهُولنَّك، وإنْ رأيتَه بشَّاً لطيفاً فهو نبـيٌّ.

السابقالتالي
2