الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }

وقولُه تعالى: { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي زماناً غيرَ مديدٍ. وقُرىء بضمِّ الكافِ. وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السَّلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطيرِ وهو النَّسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلاَّ رحِمتنِي فتركتْهُ. وقالتْ: ثكلتكَ أمُّك. إنَّ نبـيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك. قال: وما استثنَى. قالتْ: بَلَى، قَالَ: أو ليأتينِّي بعذرٍ مبـينٍ، فلمَّا قرُب من سليمانَ عليه السَّلامِ أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السَّلام برأسه فمدَّه إليه، فقال: يا نبـيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بـين يَدَي الله تعالى، فارتعدَ سليمانُ عليه السَّلام وعفا عنه ثم سألَه { فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي علماً ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه. وقُرىء أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ. ولاخفاءَ في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبـينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بـين يدي نبـيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام تعدِّياً عن طورهِ وتجاوزاً عن دائرة قدرهِ، ونفيُها عنه عليه الصَّلاة والسَّلام جنايةً على جنايةٍ، فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنه بأنَّ ذلك كان منه بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك مع ما أُوتي عليه الصَّلاة والسَّلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصَّلاة والسَّلام في علمِه، وتنبـيهاً على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علماً بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفاً له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضليةً ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم. وقد علم أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعاً فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصَّلاة والسَّلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذارِ المُنبىءِ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه. { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } حيثُ فسَّر إبهامَه نوعَ تفسيرٍ وأراه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبـيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلاَّ فماذا صدَر عنهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبـيهُه عليه الصَّلاة والسَّلام على تركِه.

السابقالتالي
2