الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

{ حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ } حتَّى هي التي يُـبتدأُ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولِه تعالى:حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ } [سورة هود: الآية 40] الآيةَ وهي ههنا غايةٌ لما يُنبىء عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ: فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه، وبالطَّائفِ على ما قالَه كعبٌ رضي الله عنه، وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم. وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه، من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ، ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ. وقولُه تعالى { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم، جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النملِ مقولٌ لهم حيثُ قيل: { يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ } مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلقَ الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهمَ. وقُرىء نَمُلة يا أيُّها النَّمُل بضمِّ الميمِ، وهو الأصلُ كالرجُل، وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبُع. وقُرىء بضمِّ النونِ والميمِ. قيل: كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل: كان اسمُها طاخيةً. وقُرىء مسكنَكم. وقولُه تعالى: { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ } نهيٌ في الحقيقيةِ للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم: لا أرينَّك هَهُنا. فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ، كقولِ مَنْ قالَ
فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا   
لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السَّعة. وقُرىء لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها، وأصلُه لا يحتطمنَّكم. وقولُه تعالى: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقيـيدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا، وأرادتْ بذلكَ الإيذانَ بأنَّها عارفةٌ بشؤونِ سليمانَ وسائرِ الأنبـياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ، وقيل: هو استئنافٌ أي فهمَ سليمانُ ما قالتْهُ والقومُ لا يشعرونَ بذلكَ.