الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } * { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } * { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً }

{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ } المنطويةِ على المواعظ والأحكامِ { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي أكبُّوا عليها سامعين بآذانٍ واعيةٍ مجتلين لها بعيون راعية وإنما عبَّر عن ذلك بنفي الضِّدِّ تعريضاً بما يفعله الكفرةُ والمنافقون وقيل الضَّميرُ لمعاصي المدلولِ عليها باللغو.

{ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله تعالى:أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } [سورة الطور: الآية 21] ومِن ابتدائيةٌ أو بـيانيةٌ وقرىء وذريتِنا. وتنكيرُ الأعينِ لإرادة تنكيرِ القُرَّة تعظيماً. وتقليلُها لأنَّ المرادَ أعينُ المتَّقين ولا ريبَ في قلَّتِها نظراً إلى غيرِها { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي اجعلنا بحيثُ يقتدون بنا في إقامة مراسم الدِّين بإفاضة العلم والتَّوفيقِ للعمل. وتوحيدُه للدِّلالة على الجنس وعدم الالتباس كقوله تعالى:ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [سورة غافر: الآية 27] أو لأنَّ المرادَ واجعلْ كلَّ واحدٍ مَّنا إماماً أو لأنَّهم كنفس واحدةٍ لاتِّحاد طريقتهم واتِّفاق كلمتِهم كذا قالُوا. وأنت خبـيرٌ بأن مدارَ الكلِّ صدورُ هذا الدُّعاء إما عن الكلِّ بطريق المعيَّةِ وأنَّه محالٌ لاستحالة اجتماعِهم في عصرٍ واحدٍ فما ظنُّك باجتماعهم في مجلسٍ واحدٍ واتِّفاقِهم على كلمةٍ واحدةَ وإما عن كلَّ واحدٍ بطريق تشريك غيره في استدعاءِ الإمامةِ وأنَّه ليس بثابتٍ جَزْماً بل الظَّاهرُ صدورُه عنهم بطريقِ الانفرادِ وأنَّ عبارةَ كلِّ واحدٍ منهم عند الدُّعاء واجعلني للمتَّقين إماماً خلا أنه حُكيت عباراتُ الكلِّ بصيغة المتكلِّم مع الغيرِ للقصدِ إلى الإنجاز على طريقة قوله تعالى:يأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً } [سورة المؤمنون: الآية 51] وأُبقي إماماً على حاله، وقيل: الإمام جمع آمَ بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مُقتدين بهم. وإعادةُ الموصولِ في المواقع السَّبعةِ مع كفايةِ ذكرِ الصِّلات بطريقِ العطفِ على صلةِ الموصولِ الأولِ للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ مما ذُكر في حيَّزِ صلةِ الموصولاتِ المذكورة وصفٌ جليلٌ على حيالهِ شأنٌ خُطيرٌ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يجعل شيءٌ من ذلكَ تتمة لغيرهِ وتوسيط العاطفِ بـين الموصولاتِ لتنزيلِ الاختلافِ العنوانيِّ منزلةَ الاختلاف الذاتيِّ كما في قوله
إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمَام   وَلَيْثِ الكَتَائبِ في المُزْدَحمْ
{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى المتَّصفين بما فُصِّل في حيِّزِ صلة الموصُولات الثمَّانيةِ من حيثُ اتِّصافُهم به. وفيه دلالةٌ على أنَّهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّزٍ منتظِمون بسببه في سلك الأمورِ المُشاهَدة، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعدِ منزلتهم في الفضلِ. وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: { يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ } والجملة مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبـيِّنةٌ لما لهم في الآخرةِ من السَّعادةِ الأبديَّةِ إثرَ بـيانِ ما لهمُ في الدُّنيا من الأعمال السَّنيةِ.

السابقالتالي
2