الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } * { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً }

{ وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } بعد ما جعلوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه إفكاً مختلَقاً بإعانة البشرِ بـيَّنوا على زعمهم الفاسدِ كيفيَّةَ الإعانةِ. والأساطيرُ جمع أسطارٍ أو أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وهي ما سطرَه المتقدِّمون من الخُرافاتِ { ٱكْتَتَبَهَا } أي كتبها لنفسِه على الإسناد المجازيِّ أو استكتبَها. وقُرىء على البناءِ للمفعولِ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُميٌّ. وأصله اكتتبها له كاتبٌ فحذف اللامُ وأُفضيَ الفعلُ إلى الضَّميرِ فصار اكتتبَها إيَّاه كاتبٌ ثم حُذف الفاعلُ لعدم تعلُّقِ الغرضِ العلميِّ بخصوصِه وبُني الفعلُ للضَّميرِ المنفصلِ فاستترَ فيه { فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } أي تُلقى عليه تلك الأساطيرُ بعد اكتتابِها ليحفظَها من أفواهِ مَن يُمليها عليه من ذلك المكتتب لكونِه أميّاً لا يقدرُ على أنْ يتلقَّاها منه بالقراءةِ أو تملى على الكاتب على أنَّ معنى اكتتبها أرادَ اكتتابَها أو استكتابَها. ورجعُ الضَّميرِ المجرورِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لإسنادِ الكتابةِ في ضمن الاكتتابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي دائماً أو خُفية قبل انتشارِ النَّاسِ حين يأوون إلى مساكنِهم. انظُر إلى هذهِ الرُّتبةِ من الجراءةِ العظيمةِ قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون.

{ قُلْ } لهم ردًّا عليهم وتحقيقاً للحقِّ { أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وصفه تعالى بإحاطةِ علمِه بجميع المعلومات الجليَّةِ والخفيَّةِ للإيذان بانطواءِ ما أنزله على أسرارٍ مطويَّةٍ عن عقول البشر مع ما فيه من التَّعريضِ بمجازاتِهم بجناياتهم المحكيَّةِ التي هي من جُملة معلوماتِه تعالى أي ليس ذلك ممَّا يُفترى ويُفتعل بإعانة قومٍ وكتابة آخرين من الأحاديثِ المُلفَّقة وأساطيرِ الأوَّلينَ بل هو أمر سماويٌّ أنزله الله الذي لا يعزبُ عن علمه شيءٌ من الأشياءِ وأودع فيه فنونَ الحكمِ والأسرارِ على وجهٍ بديعٍ لا يحومُ حوله الأفهامُ حيث أعجزَكم قاطبةً بفصاحتِه وبلاغتِه وأخبركم بمغيَّباتٍ مستقبلةٍ وأمورٍ مكنونةٍ لا يُهتدى إليها ولا يُوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبـيرِ وقد جعلتمُوه إفكاً مُفترى من قبـيل الأساطير واستوجبتُم بذلك أنُ يُصَبَّ عليكم سوطُ العذابِ صبّاً. فقولُه تعالى: { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } تعليلٌ لمَا هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنَّه تعالى أزلاً وأبداً مستمرٌّ على المغفرةِ والرَّحمةِ المستتبعين للتَّأخيرِ فلذلك لا يُعجِّلُ بعقوبتِكم على ما تقولون في حقِّه مع كمال استيجابِه إيَّاها وغاية قُدرتِه تعالى عليها.

{ وَقَالُواْ مَّالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولَ } شروعٌ في حكاية جنايتهم المتعلِّقة بخصوصيَّةِ المنزَّلِ عليهِ. وما استفهاميَّةٌ بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرُها ما بعدها من الجارِّ والمجرورِ. وفي هذا تصغيرٌ لشأنه عليه الصَّلاة والسَّلام وتسميتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ به عليه الصَّلاة والسَّلام كما قال فرعونُ:إنَّ رسولَكم الذي أُرسل إليكُم لمجنون } [الشعراء: 27]، وقولُه تعالى: { يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ } حالٌ من الرَّسولِ، والعاملُ فيها ما عملَ في الجارِّ من معنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ وأيُّ سببٍ حصلَ لهذا الذي يدَّعي الرِّسالةَ حالَ كونِه يأكلُ الطَّعامَ كما نأكلُ { وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ } لابتغاءِ الأرزاقِ كما نفعلُه، على توجيه الإنكار والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقُّقِ المُسبَّبِ الذي هو مضمون الجملة الحاليَّةِ كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2