الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ } بـيانٌ لبعضِ دلائل التَّوحيدِ إثرَ بـيانِ جهالةِ المُعرِضينِ عنها وضلالتهم. والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والهمزةُ للتَّقريرِ. والتَّعرضُ لعُنوان الرُّبُوبِّـيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللإيذانِ بأنَّ ما يعقُبه من آثارِ ربوبـيَّتِه ورحمتِه تعالى أي ألم تنظُر إلى بديعِ صُنعه تعالى { كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ } أي كيف أنشأ ظلَّ أيَّ مُظَلَ كان من جبلٍ أو بناءٍ أو شجرةٍ عند ابتداء طلوع الشَّمسِ ممتداً لا أنَّه تعالى مدَّهَ بعد أنْ لم يكن كذلك كما بعدَ نصفِ النهار إلى غروبها فإنَّ ذلك مع خُلوِّه عن التَّصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثِه يأباهُ سياقُ النَّظمِ الكريمِ. وأما ما قيل من أنَّ المرادَ بالظِّل ما بـين طُلوعِ الفجرِ وطُلوع الشَّمسِ وأنه أطيبُ الأوقاتِ فإنَّ الظُّلمةَ الخالصةَ تنفِرُ عنها الطِّباعُ وشعاع الشمس يسخِّنُ الجوَّ ويبهر البصرَ ولذلك وَصَف به الجَّنةَ في قوله تعالى:وَظِلّ مَّمْدُودٍ } [سورة الواقعة: الآية 30] فغيرُ سديد إذ لا ريب في أنَّ المرادَ تنبـيهُ النَّاسِ على عظيم قُدرة الله عزَّ وجلَّ وبالغِ حكمتِه فيما يشاهدونَه فلا بدَّ أنْ يُرادُ بالظلِّ ما يتعارفونه من حالةٍ مخصوصةٍ يشاهدونها في موضعٍ يحول بـينه وبـين الشَّمسِ جسمٌ كثيفٌ مخالفةً لما في جوانبه من مواقعِ ضحِّ الشَّمسِ وما ذُكر وإن كانَ في الحقيقةِ ظلاَّ للأفق الشرقيِّ لكنَّهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافهِ المعهودةِ ولعلَّ توجيه الرُّؤية إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تقريرُ رؤيته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لكيفيَّةِ مدِّ الظِّلِّ للتنبـيهِ على أنَّ نظرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غيرُ مقصورٍ على ما يُطالعه من الآثارِ والصَّنائعِ بل مطمح أنظارِه معرفةُ شؤون الصَّانعِ المجيدِ. وقوله تعالى:

{ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } جملةٌ اعترضتْ بـين المعطوفين للتَّنبـيِه من أول الأمرِ على أنَّه لا مدخل فيما ذكر من المدِّ للأسباب العاديَّةِ وإنَّما المؤثر فيها المشيئةُ والقدرةُ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء أي ولو شاء سكونَه لجعله ساكناً أي ثابتاً على حالِه من الطُّولِ والامتدادِ وإنما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ لما أنَّ مقابلَه الذي هو تغيُّر حاله حسب تغُّيرِ الأوضاعِ بـينَ المظلِّ وبـين الشَّمسِ يُرَى رأيَ العينِ حركة وانتقالاً وحاصلُه أنه لا يعتريهِ اختلافُ حالٍ بأن لا تنسخه الشَّمسُ، وأمَّا التَّعليلُ بأنْ يجعل الشَّمسَ مقيمةً على وضع واحد فمداره الغفُول عمَّا سِيق له النَّظمُ الكريم ونطقَ به صريحاً من بـيان كمال قُدرته القاهرة وحِكمته الباهرة بنسبة جميعِ الأمور الحادثة إليه تعالى بالذَّاتِ وإسقاط الأسباب العاديَّةِ عن رُتبة السَّببـيَّةِ والتَّأثيرِ بالكُلِّيةِ وقصرِها على مجرَّدِ الدِّلالةِ على وجود المسبَّبات لا بذكر قُدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامةِ الشَّمسِ في مُقام واحدٍ على أنَّها أعظمُ من إبقاء الظلِّ على حالِه في الدِّلالةِ على ما ذُكر من كمال القُدرةِ والحكمة لكونِه من فُروعها ومُستتبعاتها فهي أَوْلَى وأحقُّ بالإيراد في معرضِ البـيانِ.

السابقالتالي
2