الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } * { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً } * { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً }

{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاء } أي تتفتحُ وأصلُه تتشقَّقُ فحُذفتْ إحدى التَّاءينِ كما في تلظَّى. وقُرىء بإدغامِ التَّاءِ في الشِّينِ { بِٱلْغَمَـٰمِ } بسببِ طلوعِ الغمامِ منها وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى:هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ } [سورة البقرة, الآية 210] قيل هو غمامٌ أبـيضُ رقيقٌ مثلُ الضَّبابةِ ولم يكُنْ إلاَّ لبني إسرائيلَ { وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ تَنزِيلاً } أي تنزيلاً عجيباً غيرَ معُهودٍ قيل تنشق سماءً سماءً وينزل الملائكةُ خلالَ ذلك الغمامِ بصحائفِ أعمالِ العبادِ وقُرىء ونُزِّلتِ الملائكةُ ونُنْزل ونُنزّل على صيغة المتكلم من الإنزالِ والتَّنزيل ونزَّل الملائكةَ وأنزلَ الملائكةَ وتزِلُ الملائكةُ على حذف النُّون الذي هو فاءُ الفعلِ من تنزل.

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } أي السَّلطنةُ القاهرِةُ والاستيلاءُ الكليُّ العام الثَّابتُ صورةً ومعنى ظاهراً وباطناً بحيثُ لا زوالَ له أصلاً ثابتٌ الرَّحمِ يومئذٍ فالمُلكُ مبتدأٌ والحقُّ صفتُه وللرَّحمنِ خبرُه ويومنذٍ ظرفٌ لثبُوتِ الخبرِ للمبتدأِ، وفائدةُ التَّقيـيدِ أنَّ ثبوت المُلك المذكور له تعالى خاصَّةً يومئذٍ وأمَّا فيما عداهُ من أيَّامِ الدُّنيا فيكون لغيرهِ أيضاً تصرُّفٌ صوريُّ في الجُملةِ وقيل:المُلك مبتدأٌ والحقُّ خبرُه وللرَّحمنُ متعلَّق بالحقِّ أو بمحذوفٍ على التَّبـيـين أو بمحذوفٍ هو صفةٌ للحقِّ ويومئذٍ معمولٌ للملك وقيلَ الخبرُ يومئذٍ والحقُّ نعتٌ للملكِ وللرَّحمٰنِ على ما ذُكر، وأيَّاً ما كان فالجملُة بمعناها عاملةٌ في الظَّرفِ أي ينفردُ الله تعالَى بالملكِ يومَ تشقَّقُ وقيل: الظَّرفُ منصوبٌ بما ذُكر فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مسوقٌ لبـيانِ أحوالِه وأهوالِه وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيةِ للإيذانِ بأنَّ اتصِّافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يهُوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ لعدمِ استحقاقِهم للرَّحمةِ كما في قولِه تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ } [سورة الانفطار, الآية 6] والمعنى أنَّ الملكَ الحقيقيَّ يومئذٍ للرَّحمنِ { وَكَانَ } ذلكَ اليوم مع كونِ المُلكِ فيه لله تعالى المبالغ في الرَّحمةِ لعبادِه { يَوْماً عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ عَسِيراً } شَديداً لهُم. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لمُراعاةِ الفواصلِ وأمَّا للمُؤمنين فيكون يَسيراً بفضلِ الله تعالى، وقد جاءَ في الحديثِ أنَّه يُهوَّن يومُ القيامةِ على المؤمنِ حتَّى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ صلاَّها في الدّنيا، والجملةُ اعتراضٌ تذيـيلىٌّ مقرِّرٌ لما قبله.

{ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } عضُّ اليدينِ والأناملِ وأكلُ البنانِ وحرقُ الأسنانِ ونحوها كناياتٌ عن الغيظِ والحسرةِ لأنَّها من روادِفهما. والمرادُ بالظَّالمِ إمَّا عقبةُ بنُ أبـي مُعيطٍ على ما قيل: من أنَّه كان يُكثر مجالسةَ النبـيِّ صلى الله عليه وسلم فدعاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يوماً إلى ضيافتِه فأبى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يأكلَ من طعامِه حتَّى ينطِقَ بالشَّهادتينِ ففعلَ وكان أُبـيُّ بنُ خَلَفٍ صديقَه فعاتبَه فقال: صَبأتَ فقال: لا ولكنْ أَبَى أنْ يأكلَ منْ طَعَامي وهو في بـيتي فاستحيـيتُ منه فشهدتُ له فقال: إنيِّ لا أرضى منكَ إلا أنْ تأتيَه فتطأَ قفاهُ وتبزقَ في وجههِ فأتاهُ فوجدَه ساجداً في دارِ النَّدوةِ ففعل ذلك فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لا ألقاكَ خارجاً من مكَّةَ إلاَّ علوتُ رأسَك بالسَّيفِ فأُسرَ يوم بدرٍ فأمرَ عليَّاً رضي الله عنه فقتَلَه وقيل: قَتَله عاصمُ بنُ ثابثٍ الأنصاريُّ وطعنَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُبـيَّاً يومَ أُحدٍ في المُبارزة فرجعَ إلى مكَّةَ وماتَ.

السابقالتالي
2