الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } * { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }

سورة الفرقان

مكية وهي سبع وسبعون آية

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ } البركةُ النَّماءُ والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو معنويَّةً، وكثرةُ الخيرِ ودوامُه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقام باعتبار تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاته وصفاتِه وأفعالِه التي منْ جُمْلتها تنزيلُ القُرآنِ الكريمِ المُعجزِ النَّاطقِ بعلُوِّ شأنِه تعالى وسموِّ صفاتِه وابتناءِ أفعالِه على أساس الحِكَمِ والمصالحِ وخلوِّها عن شائبة الخَلَلِ بالكُلِّيةِ. وصيغةُ التَّفاعلُ للمبالغةِ فيما ذُكر فإنَّ ما لا يُتصوَّرُ نسبتُه إليهِ سبحانَهُ حقيقةً من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه لا تُنسب إليه تعالى إلا باعتبار غايتِها. وعلى المعنى الثَّاني باعتبار كثرةِ ما يفيضُ منه على مخلوقاته لا سيَّما على الإنسان من فُنون الخيراتِ التي من جُملتها تنزيلُ القُرآن المنطويِ على جميع الخيراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ. والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكونَ لإفادة نماءِ تلك الخيراتِ وتزايدها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسب حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها. ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وتحقُّقِها بالفعلِ والإشعارِ بالتَّعجُّبِ المناسبِ للإنشاءِ والإنباءِ عن نهاية التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه تعالى ولا استعمالُ غيرِها من الصِّيغِ في حقِّه تعالى، والفُرقان مصدرُ فرقَ بـينَ الشَّيئينِ أي فصَل بـينهُما سمِّيَ به القرآنُ لغاية فرقِه بـين الحقِّ والباطلِ بأحكامه أو بـينَ المُحقِّ والمبطلِ بإعجازِه أو لكونه مفصولاً بعضِه من بعضٍ في نفسه أو في إنزاله { عَلَىٰ عَبْدِهِ } محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وإيرادُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذلك العُنوانِ لتشريفه والإيذانِ بكونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في أقصى مراتب العُبوديَّةِ والتنبـيهِ على أنَّ الرَّسولَ لا يكونُ إلا عبداً للمرسِل ردًّا على النَّصارى { لِيَكُونَ } غايةٌ للتَّنزيل أي نزَّله عليه ليكونَ هو عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أو الفرقانُ { لِلْعَـٰلَمِينَ } من الثَّقلينِ { نَذِيراً } أيْ مُنذراً أو إنذاراً مبالغةً أو ليكون تنزيلُه إنذاراً وعدمُ التَّعرضِ للتَّبشير لانسياق الكلامِ على أحوالِ الكَفَرةِ. وتقديمُ اللامِ على عاملِها لمراعاةِ الفواصلِ، وإبرازُ تنزيل الفرقانِ في معرض الصِّلةِ التي حقُّها أن تكونَ معلومةَ الثُّبوت للموصولِ عند السَّامعِ مع إنكار الكَفَرةِ له لإجرائِه مُجرى المعلومِ المسلَّمِ تنبـيهاً على كمال قُوَّةِ دلائلِه وكونِه بحيثُ لا يكادُ يجهلُه أحدٌ كقوله تعالى:لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 2، يونس: 37، السجدة: 2].

{ ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي له خاصَّة دُونَ غيرِه لا استقلالاً ولا اشتراكاً للسُّلطان القاهرِ والاستيلاءِ الباهرِ عليهما المستلزمانِ للقدرة التَّامَّةِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهما وفيما فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَمِ والمَصَالحِ، ومحلُّه الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والجملةُ مستأنفةٌ مقررةٌ لما قبلها أو على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بـيانٌ له أو بدلٌ منه وما بـينهُمَا ليس بأجنبـيَ لأنَّه من تمامِ صلتِه، ومعلوميةُ مضمونِه للكَفرة ممَّا لا ريبَ فيه لقولِه تعالى:

السابقالتالي
2