الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ }

{ وَٱلْخَامِسَةَ } أي الشهادةُ الخامسةُ للأربعِ المتقدِّمةِ أي الجاعلةُ لها خَمْساً بانضمامها إليهنَّ، وإفرادُها عنهنَّ مع كونها شهادةً أيضاً لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادةِ ما يُقصد بالشَّهادةِ من تحقيقِ الخبرِ وإظهارِ الصِّدقِ وهي مبتدأٌ خبرُه { أَنَّ لَعْنَةَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } فيما رماها به من الزِّنا فإذا لاعنَ الزَّوجُ حُبستِ الزَّوجةُ حتَّى تعترفَ فتُرجمَ أو تلاجم أو تلاعن.

{ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } أي العذابَ الدنيويَّ وهو الحبسُ المغيَّا على أحدِ الوجهينِ بالرَّجمِ الذي هو أشدُّ العذابِ { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ } أي الزوج { لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } أي فيما رَمَاني به من الزِّنا.

{ وَٱلْخَامِسَةَ } بالنَّصبِ عَطْفاً على أربع شهادات { أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ } أي الزوج { مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } أي فيما رَمَاني به من الزِّنا. وقُرىء والخامسةُ بالرَّفعِ على الابتداءِ وقُرىء أنْ بالتَّخفيفِ في الموضعينِ، ورفعِ اللَّعنةِ والغضبِ. وقُرىء أنْ غضِبَ اللَّهُ. وتخصيصُ الغضبِ بجانبِ المرأةِ للتغليظِ عليها لما أنَّها مادةُ الفجورِ ولأنَّ النِّساءَ كثيراً ما يستعملنَ اللَّعن فربما يجترئن على التفوُّهِ به لسقوطِ وقعهِ عن قلوبهنَّ بخلافِ غضبهِ تعالى. رُوي أنَّ آيةَ القذفِ لمَّا نزلتْ قرأها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ فقامَ عاصمُ بنُ عديَ الأنصاريُّ رضي الله عنه فقالَ: جعلني اللَّهُ فداكَ إنْ وجدَ رجلٌ مع امرأته رجُلاً فأخبرَ جُلد ثمانينَ ورُدَّتْ شهادتُه وفُسِّقَ وإنْ ضربه بالسَّيفِ قُتل وإنْ سكتَ سكتَ على غيظٍ وإلى أنْ يجيءَ بأربعةِ شهداءَ فقد قضى الرَّجلُ حاجته ومضى اللهمَّ افتحْ وخرجَ فاستقبله هلالُ بن أُميَّة أو عُويمرٌ فقال: ما وراءكَ؟ قالَ: شَرٌّ وجدتُ على امرأتي خَوْلة ـ وهي بنتُ عاصمٍ ـ شريكَ بنَ سَحْماءَ فقالَ: واللَّهِ هذا سُؤالي ما أسرعَ ما ابتُليتَ به فرجعا فأخبرا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فكلَّم خَوْلةَ فأنكرتْ فلاعنَ بـينهما. والفُرقةُ الواقعةُ باللِّعانِ في حُكم التَّطليقةِ البائنةِ عندَ أبـي حنيفةَ ومحمَّدٍ رحمهُما اللَّهُ ولا يتأبَّدُ حكمُها حتَّى إذا أكذبَ الرَّجلُ نفسَه بعدَ ذلكَ فحُدَّ جازَ له أنْ يتزوَّجها، وعند أبـي يوسف وزُفر والحسنِ بنِ زياد والشَّافعيِّ رحمهم اللَّهُ: هي فُرقةٌ بغيرِ طلاقٍ تُوجبُ تَحريماً مؤبَّداً ليس لهما اجتماعٌ بعد ذلكَ أبدا.

{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } التفاتٌ إلى خطابِ الرَّامين والمرميَّاتِ بطريقِ التَّغليبِ لتوفيةِ مقامَ الامتنانِ حقَّه. وجوابُ لولا محذوفٌ لتهويله والإشعارِ بضيقِ العبارةِ عن حصره كأنَّه قيل ولولا تفضُّلُه تعالى عليكم ورحمتُه وأنَّه تعالى مبالغٌ في قبولِ التَّوبةِ حكيمٌ في جميعِ أفعالِه وأحكامِه التي جُمْلتُها ما شرعَ لكُم من حكمِ اللِّعانِ لكانَ ما كانَ ممَّا لا يحيطُ به نطاقُ البـيانِ ومن جُمْلتهِ أنَّه تعالى لو لم يشرعْ لهم ذلك لوجبَ على الزَّوجِ حدُّ القذفِ مع أنَّ الظاهرَ صدقُه لأنَّه أعرفُ بحالِ زوجته وأنّه لا يفترِي عليها لاشتراكِهما في الفضاحةِ، وبعدَما شرعَ لهم ذلك لو جعلَ شهاداتهِ موجبةً لحدِّ القذفِ عليه لفاتَ النَّظرُ له ولا ريبَ في خروجِ الكلِّ عن سننِ الحكمةِ والفضلِ والرَّحمةِ فجعلَ شهاداتِ كلَ منهُما مع الجزمِ بكذبِ أحدِهما حتماً دارئةً لما توجَّهَ إليهِ من الغائلةِ الدُّنيويةِ وقد ابتُليَ الكاذبُ منهما في تضاعيفِ شهاداتهِ من العذابِ بما هو أتمُّ مما درأتْهُ عنه وأطمُّ، وفي ذلكَ من أحكامِ الحكمِ البالغةِ وآثارِ التَّفضلِ والرَّحمةِ ما لا يخفى أمَّا على الصَّادقِ فظاهرٌ وأمَّا على الكاذبِ فهو إمهالُه والسَّترُ عليهِ في الدُّنيا ودرءُ الحدِّ عنه وتعريضُه للتَّوبةِ حسبما ينبىءُ عنه التَّعرضُ لعُنوانِ توَّابـيته سُبحانه ما أعظمَ شأنَهُ وأوسعَ رحمتَهُ وأدقَّ حكمتَهُ.