الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ يَـٰأَيُهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } رجوع إلى بـيان تتمةِ الأحكامِ السَّابقةِ بعد تمهيدِ ما يُوجب الامتثالَ بالأوامر والنَّواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاَّحقةِ من التمثيلات والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ والوعدِ والوعيدِ. والخطابُ إمَّا للرِّجالِ خاصَّةً، والنِّساءُ داخلاتٌ في الحكم بدلالة النَّصِّ أو للفريقينِ جميعاً بطريقِ التَّغليبِ. رُوي أنَّ غلاماً لأسماءَ بنتِ أبـي مَرْثَدٍ دخل عليها في وقتٍ كرهتْهُ فنزلتْ، وقيلَ: أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِدْلَجَ بنَ عمروٍ الأنصاريَّ وكان غُلاماً وقتَ الظَّهيرةِ ليدعوَ عُمرَ رضي الله عنه فدخلَ عليه وهو نائمٌ قد انكشفَ عنه ثوبُه، فقال عمرُ رضي الله عنه: لوددتُ أنَّ الله تعالى نَهَى آباءَنا وأبناءَنا وخدمَنا أنْ لا يدخلوا علينا هذه السَّاعاتِ إلا بإذنٍ ثمَّ انطلقَ معه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فوجدَه وقد أُنزلتْ عليه هذه الآيةُ.

{ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } من العبـيدِ والجَوَاري { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ } أي الصِّبـيانُ القاصرُون عن درجة البلوغِ المعهود. والتَّعبـيرُ عنه بالحُلُم لكونِه أظهرَ دلائلِه { مّنكُمْ } أي من الأحرارِ { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } أي ثلاثةَ أوقاتٍ في اليَّومِ واللَّيلةِ. والتَّعبـيرُ عنها بالمرَّات للإيذانِ بأنَّ مدارَ وجوبِ الاستئذانِ مقارنةُ تلك الأوقاتِ لمرور المستأذنينَ بالمخاطبـينَ لا أنفسِها { مّن قَبْلِ صَـلَوٰةِ ٱلْفَجْرِ } لظهورِ أنَّه وقتُ القيامِ من المضاجعِ وطرحِ ثيابِ النَّومِ ولبسِ ثيابِ اليقظةِ، ومحلُّه النَّصبُ على أنَّه بدلٌ من ثلاثَ مرَّاتٍ أو الرَّفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي أحدُها من قبل الخ { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ } أي ثيابَكم التي تلبسونَها في النَّهارِ وتخلعونَها لأجل القَيلولةِ وقوله تعالى: { مّنَ ٱلظَّهِيرَةِ } وهي شدَّةُ الحرِّ عند انتصافِ النَّهارِ بـيانٌ للحينِ. والتَّصريحُ بمدارِ الأمرِ أعني وضعَ الثِّيابِ في هذا الحينِ دُون الأوَّلِ والآخرِ لما أنَّ التَّجردَ عن الثِّيابِ فيه لأجل القيلولةِ لقلَّة زمانِها كما ينبىءُ عنها إيرادُ الحين مُضافاً إلى فعلٍ حادثٍ منقضَ ووقوعُها في النَّهارِ الذي هُو مَئِنَّةٌ لكثرةِ الورودِ والصُّدورِ ومَظِنَّةٌ لظهورِ الأحوالِ وبروزِ الأمورِ ليسَ من التَّحقُّقِ والاطرادِ بمنزلةِ ما في الوقتينِ المذكورينِ فإنَّ تحقُّقَ التَّجردِ واطِّرادَه فيهما أمرٌ معروفٌ لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ به { وَمِن بَعْدِ صَلَوٰةِ ٱلْعِشَاء } ضرورةَ أنَّه وقتُ التَّجردِ عن اللِّباسِ والالتحافِ باللِّحافِ وليسَ المرادُ بالقبليَّةِ والبعديَّةِ المذكورتينِ مطلقَهُما المتحقِّقَ في الوقتِ الممتدِّ المتخللِ بـينَ الصَّلاتينِ كما في قوله تعالى:وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ } [يوسف: 3] وقوله تعالى:مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } [يوسف: 100] بل ما يعرض منهما لطرفي ذلك الوقتِ الممتدِّ المتصلين بالصَّلاتينِ المذكورتينِ اتِّصالاً عاديّاً. وقولُه تعالى: { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ. وقولُه تعالى: { لَكُمْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لثلاثُ عوراتٍ أي كائنةٌ لكم والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لبـيان علَّةِ وجوبِ الاستئذانِ أي هنَّ ثلاثةُ أوقاتٍ يختلُّ فيها التَّستُّر عادةً.

السابقالتالي
2