الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }

قولُه تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } الخ حينئذٍ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فيها من البـيانِ مع الإشعارِ بكونه في غاية الكمالِ على الوجه الذي ستعرفُه، وأمَّا على الأوَّلِ فلتحقيقِ أنَّ بـيانه تعالى ليس مقصُوراً على ما وردَ في السُّورة الكريمة بل هو شاملٌ لكلِّ ما يحقُّ بـيانُه من الأحكام والشَّرائعِ ومباديها وغاياتها المترتِّبة عليها في الدُّنيا والآخرة وغير ذلك ممَّا له مدخلٌ في البـيان وأنَّه واقعٌ منه تعالى على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها حيث عبَّر عنه بالتَّنوير الذي هو أقوى مراتب البـيانِ وأجلاها وعبَّر عن المنوِّر بنفس النُّور تنبـيهاً على قوَّةِ التَّنوير وشدَّةِ التَّأثيرِ وإيذاناً بأنه تعالى ظاهرٌ بذاته، وكلُّ ما سواه ظاهرٌ بإظهاره، كما أنَّ النُّور نيِّرٌ بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النُّور إلى السَّمواتِ والأرضِ للدِّلالةِ على كمال شيوع البـيان المُستعار له وغاية شمولهِ لكلِّ ما يليق به من الأمور التي لها مدخل في إرشاد النَّاسِ بوساطة بـيان شمول المُستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقُّه من الأجرام العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ فإنَّهما قُطرانِ للعالم الجسمانيِّ الذي لا مظهر للنُّور الحسيِّ سواه أو على شمول البـيان لأحوالهما وأحوال ما فيهما من الموجُودات، إذ ما من موجودٍ إلا وقد بُـيِّن من أحواله ما يستحقُّ البـيانَ إمَّا تفصيلاً أو إجمالاً، كيف لا ولا ريبَ في بـيان كونهِ دليلاً على وجود الصَّانعِ وصفاته وشاهداً بصحَّة البعثِ أو على تعلُّق البـيان بأهلهما كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: هادي أهلِ السَّمواتِ والأرضِ فهم بنوره يهتدون وبهداه من حَيرة الضَّلالةِ ينجُون، هذا وأما حملُ التَّنوير على إخراجهِ تعالى للماهيَّاتِ من العدمِ إلى الوجود ـ إذ هو الأصلُ في الإظهار كما أنَّ الإعدامَ هو الأصلُ في الإخفاء ـ أو على تزيـينِ السَّمٰواتِ بالنيِّرينِ وسائر الكواكب وما يفيضُ عنها من الأنوار أو بالملائكة عليهم السَّلامُ وتزيـين الأرض بالأنبـياءِ عليهم السَّلامُ والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجارِ أو على تدبـيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما ـ فمما لا يلائمُ المقامَ ولا يساعدهُ حسنُ النِّظامِ.

{ مَثَلُ نُورِهِ } أي نورهِ الفائض منه تعالى على الأشياء المُستنيرة به وهو القرآنُ المبـينُ كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتَّبـيـينِ وقد صرّح بكونهِ نوراً أيضاً في قوله تعالى:وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174] وبه قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهُما والحسنُ وزيدُ بنُ أسلم رحمهم الله تعالى، وجعلُه عبارةً عن الحقِّ وإن شاع استعارتُه كاستعارة الظُّلمة للباطل يأباه مقامُ بـيان شأن الآياتِ ووصفِها بما ذُكر من التَّبـيـين مع عدم سبق ذكر الحقِّ ولأنَّ المعتبرَ في مفهوم النُّور هو الظُّهورُ والإظهار كما هو شأنُ القُرآن الكريم.

السابقالتالي
2 3 4