الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } * { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

سورة النور

مدنية وهي اثنتان أو أربع وستون آية

{ سُورَةٌ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هذه سورةٌ وإنَّما أُشير إليها مع عدمِ سبقِ ذكرِها لأنَّها باعتبار كونِها في شرف الذِّكرِ في حُكم الحاضرِ المُشاهَدِ. وقولُه تعالَى: { أَنزَلْنَـٰهَا } معَ ما عُطف عليه صفاتٌ لها مؤكِّدةٌ لما أفادَهُ التَّنكيرُ من الفخامة من حيثُ الذَّاتُ بالفخامة من حيثُ الصِّفاتُ. وأمَّا كونُها مبتدأً محذوفَ الخبرِ على أنْ يكونَ التَّقديرُ فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها فيأباهُ أنَّ مُقتضى المقام بـيانِ شأنِ هذه السُّورةِ الكريمةِ لا أنَّ في جُملة ما أُوحي إلى النبـيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سورةً شأنُها كَذا وكَذا، وحملُها على السُّورةِ الكَريمةِ بمعونةِ المقامِ يُوهم أنَّ غيرَها من السُّورِ الكريمةِ ليستْ على تلكَ الصِّفاتِ، وقُرىء بالنَّصبِ على إضمارِ فعلٍ يُفسِّره أنزلناهَا فلا محلَّ له حينئذٍ من الإعرابِ أو على تقديرِ اقرأْ ونحوِه أو دُونَك من يُسوِّغُ حذفَ أداةِ الإغراءِ فمحلُّ أنزلنا النَّصبُ على الوصفيَّةِ { وَفَرَضْنَـٰهَا } أي أوجبنَا ما فيها من الأحكامِ إيجاباً قطعيًّا، وفيه من الإيذانِ بغايةِ وكادةِ الفرضيَّةِ ما لا يَخْفى. وقُرىءَ فرَّضناها بالتَّشديدِ لتأكيدِ الإيجابِ أو لتعددِ الفرائضِ أو لكثرةِ المفروضِ عليهم من السَّلفِ والخلفِ { وَأَنزَلْنَا فِيهَا } أي في تضاعيفِ السُّورةِ { ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ } إنْ أُريد بها الآياتُ التي نِيطتْ بها الأحكامُ المفروضةُ وهو الأظهرُ فكونُها في السُّورةِ ظاهرٌ ومعنى كونِها بـيناتٍ وضوحُ دلالاتِها على أحكامِها لا على الإطلاقِ فإنَّها أسوةٌ لسائرِ الآياتِ في ذلكَ، وتكريرُ أنزلنا معَ استلزام إنزالِ السُّورةِ لإنزالِها لإبرازِ كمالِ العنايةِ بشأنِها وإنْ أُريد جميعُ الآياتِ فالظَّرفيةُ باعتبارِ اشتمالِ الكلِّ على كلِّ واحدٍ من أجزائِه، وتكريرُ أنزلنا مع أنَّ جميعَ الآياتِ عينُ السُّورةِ وإنزالها لاستقلالها بعنوانٍ رائقٍ رادعٍ إلى تخصيصِ إنزالِها بالذِّكرِ إبانةً لخطرِها ورفعاً لمحلِّها كقولِه تعالى:وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود: 58] بعد قولِه تعالى: { نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بحذفِ إحدى التَّاءينِ. وقُرىء بإدغامِ الثَّانيةِ في الذَّالِ أي تَتذكَّرونها فتعملونَ بموجبِها عند وقوعِ الحوادثِ الدَّاعيةِ إلى إجراءِ أحكامِها وفيه إيذانٌ بأنَّ حقَّها أنْ تكونَ على ذكرٍ منهم بحيثُ مَتَى مسَّتِ الحاجةُ إليها استحضرُوها.

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى } شُروعٌ في تفصيلِ ما ذُكِر منَ الآياتِ البـيِّناتِ وبـيانِ أحكامِها، والزَّانيةُ هي المرأةُ المُطاوِعةُ للزِّنا الممكِّنةُ منه كما تُنبىء عنه الصِّيغةُ لا المزنيةُ كُرهاً وتقديمُها على الزَّاني لأنَّها الأصلُ في الفعل لكونِ الدَّاعيةِ فيها أوفرَ ولولا تمكينُها منه لم يقعْ. ورفعُهما على الابتداءِ، والخبرُ قولُه تعالى: { فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشَّرطِ إذِ اللاَّمُ بمعنى الموصولِ والتَّقديرُ التي زنتْ والذي زَنى كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2