الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }

{ ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ } أي الجنسَ باعتبار أفراده المغايرة لآدمَ عليه السَّلامُ أو جعلنا نسلَه على حذف المضاف إنْ أُريد بالإنسان آدمُ عليه السَّلامُ { نُّطْفَةٍ } بأن خلقناه منها أو ثمَّ جعلنا السُّلالةَ نُطفةً. والتَّذكيرُ بتأويل الجوهرِ أو المسلولِ أو الماءِ { فِى قَرَارٍ } أي مستقَرَ وهو الرَّحِمُ عبر عنها بالقرارِ الذي هو مصدرٌ مبالغةً. وقولُه تعالى: { مَّكِينٍ } وصفٌ لها بصفة ما استقرَّ فيها مثلُ: طريقٌ سائرٌ أو بمكانتها في نفسِها فإنَّها مكثتْ بحيث هي وأُحرزتْ.

{ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي دماً جامداً بأن أحلنا النُّطفة البـيضاءَ علقةً حمراءَ. { فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً } أي قطعةَ لحمٍ لا استبانة ولا تمايزَ فيها { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ } أي غالبَها ومعظمها أو كلَّها { عِظَـٰماً } بأنْ صلبناها وجعلناها عموداً للبدنِ على هيئاتٍ وأوضاعٍ مخصوصةٍ تقتضيها الحكمةُ { فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَـٰمَ } المعهودة { لَحْماً } من بقية المضغةِ أو ممَّا أنبتنا عليها بقدرتنا ممَّا يصلُ إليها أي كسونا كلَّ عظمٍ من تلك العظام ما يليقُ به من اللَّحمِ على مقدارٍ لائقٍ به وهيئةٍ مناسبةٍ له. واختلافِ العواطفِ للتَّنبـيه على تفاوتِ الاستحالاتِ. وجمعُ العظامِ لاختلافِهما. وقُرىء على التَّوحيدِ فيهما اكتفاءً بالجنسِ وبتوحيدِ الأوَّلِ فَقَطْ وبتوحيد الثَّاني فحسب { ثُمَّ أَنْشَأْنَـٰهُ خَلْقَاً ءَاخَرَ } هي صورةُ البدنِ أو الرُّوحِ أو القُوى بنفخه فيه، أو المجموعُ وثمَّ لكمالِ التَّفاوتِ بـين الخلقينِ واحتجَّ به أبو حنيفة رحمه الله على أنَّ من غصبَ بـيضةً فأفرختْ عنده لزمه ضمانُ البـيضةِ لا الفرخُ لأنَّه خلقٌ آخرُ.

{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ } فتعالى شأنُه في علمه الشَّاملِ وقُدرتهِ الباهرة. والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربـيةِ المهابة وإدخالِ الرَّوعة والإشعارِ بأنَّ ما ذُكر من الأفاعيلِ العجيبة من أحكام الأُلوهيَّةِ وللإيذانِ بأنَّ حقَّ كلِّ مَن سمع ما فُصِّل من آثار قُدرتهِ عزَّ وعلا أو لاحظَه أنْ يُسارعَ إلى التَّكلُّمِ به إجلالاً وإعظاماً لشؤونهِ تعالى. { أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } بدلٌ من الجلالة وقيل نعتٌ بناء على أن الإضافة ليستْ لفظيَّةً وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هُو أحسنُ الخالقينَ خَلْقاً، أي المقدِّرين تقديراً، حُذف المميِّز لدلالة الخالقينَ عليه كما حُذف المأذونُ فيه في قوله تعالى:أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ } [الحج: 39] لدلالة الصِّلةِ عليه، أي أحسنُ الخالقين خَلْقاً، فالحُسنُ للخلقِ. قيلَ نظيرُه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: " إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ " أي جميلٌ فعلُه فحُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَهُ فانقلبَ مرفُوعاً فاستكنَّ. رُوي " أنَّ عبدَ اللَّه بن أبـي سَرْحٍ كان يكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيَ فلمَّا انتهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى قوله خلقاً آخرَ سارع عبدُ اللَّه إلى النُّطقِ به قبل إملائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقال: «اكتبْهُ هكذا نزلتْ» " فشكَّ عبدُ اللَّه فقال: إنْ كان محمَّدٌ يُوحى إليه فأنا كذلك فلحقَ بمكَّة كافراً ثمَّ أسلمَ يوم الفتحِ وقيل ماتَ على كُفرِه.

السابقالتالي
2