الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ }

سورة الحج

مكية إلا ست آيات من { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ } إلى { صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } وهي ثمان وسبعون آية

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } خطابٌ يعمُّ حُكمُه المكلفين عند النُّزولِ ومَن سينتظم في سلكهم بعدُ من الموجودين القاصرين عن رتبةِ التكليفِ والحادثين بعدَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وإنْ كان خطابُ المشافهةِ مختصًّا بالفريق الأولِ على الوجه الذي مرَّ تقريرُه في مطلعِ سورةِ النساءِ. ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكورِ فواردةٌ على نهجِ التغليبِ لعدمِ تناولِها للإناثِ حقيقةً إلا عندَ الحنابلةِ. والمأمورُ به مطلقُ التَّقوى الذي هو التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ، ويندرجُ فيه الإيمانُ بالله واليومِ الآخرِ حسبما وردَ به الشرعُ اندراجاً أولياً. والتعرضُ لعنوانِ الربوبـيةِ المنبئةِ عن المالكيةِ والتربـيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبـينَ لتأيـيدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به ترهيباً وترغيباً. أي احذَرُوا عقوبةَ مالكِ أمورِكم ومُربِّـيكم. وقولُه تعالى: { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ } تعليلٌ لموجبِ الأمرِ بذكرِ بعضِ عقوباتِه الهائلةِ فإنَّ ملاحظةَ عِظَمِها وهولِها وفظاعةِ ما هيَ من مباديهِ ومقدماتِه من الأحوالِ والأهوالِ التي لا مَلْجأَ منها سوى التَّدرعِ بلباسِ التَّقوى مما يوجبُ مزيدَ الاعتناءِ بملابستِه وملازمتِه لا محالةَ. والزلزلةُ التحريكُ الشديدُ والإزعاجُ العنيفُ بطريقِ التكريرِ بحيث يزيلُ الأشياءَ من مقارِّها ويُخرجُها عن مراكزِها. وإضافتُها إلى الساعةِ إمَّا إضافةُ المصدرِ إلى فاعلِه، على المجازِ الحكميِّ. كأنَّها هي التي تزلزلُ الأشياءَ، أو إضافتُه إلى الظَّرفِ إمَّا بإجرائِه مُجرى المفعولِ به اتساعاً، أو بتقديرِ في كما في قولِه تعالى:بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [سورة سبأ: 33]. وهي الزَّلزلةُ المذكورةُ في قولِه تعالى:إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [سورة الزلزلة: 1]. عن الحسنِ أنَّها تكونُ يومَ القيامةِ. وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: زلزلةُ السَّاعةِ قيامُها، وعن علقمةَ والشَّعبـيِّ: أنَّها قبلَ طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها، فإضافتُها إلى الساعةِ حينئذٍ لكونِها من أشراطِها، وفي التعبـيرِ عنها بالشيءِ إيذانٌ بأنَّ العقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنهِها والعبارةُ ضيقةٌ لا تحيطُ بها إلاَّ على وجهِ الإبهامِ.

وقوله تعالى: { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } منتصبٌ بما بعدَهُ قُدِّمَ عليهِ اهتماماً بهِ. والضميرُ للزَّلزلةِ أي وقتَ رؤيتِكم إيَّاها ومشاهدتِكم لهولِ مطلعِها { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } أي مباشرةٍ للإرضاعِ. { عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي تغفلُ وتذهلُ مع دهشةٍ عمَّا هيَ بصددِ إرضاعِه من طفلِها الذي ألقمتْهُ ثديَها. والتعبـيرُ عنه بمَا دونِ مَنْ لتأكيدِ الذهولِ وكونِه بحيثُ لا يخطرُ ببالِها أنَّه ماذا لا أنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل: مَا مصدريةٌ أي تذهلُ عنْ إرضاعِها. والأولُ أدلُّ على شدةِ الهولِ وكمالِ الانزعاجِ. وقُرَىءَ تُذهَل من الإذهالِ مبنياً للمفعولِ أو مبنياً للفاعلِ مع نصبِ كلُّ، أي تُذهلها الزلزلةُ.

السابقالتالي
2