الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ } * { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ } * { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } * { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ }

{ هَـٰذَانِ } تعيـينٌ لطرفَيْ الخصامِ وإزاحةٌ لما عسى يتبادرُ إلى الوهمِ من كونِه بـين كل واحدةٍ من الفرقِ الستِّ وبـين البواقي وتحريرٌ لمحلِّه أي فريق المؤمنينَ وفريقُ الكفرةِ المنقسمُ إلى الفرقِ الخمسِ { خَصْمَانِ } أي فريقانِ مختصمانِ وإنما قيل: { ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ } حملاً على المعنى أي اختصمُوا في شأنِه عزَّ وجلَّ، وقيل في دينه، وقيل ذاته وصفاته والكّل من شؤونه تعالى فإنَّ اعتقادَ كل من الفريقينِ بحقيَّةِ ما هُو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحبُه وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه خصومةٌ للفريقِ الآخرِ وإنْ لم يجرِ بـينهما التَّحاورُ والخصامُ، وقيل: تخاصمتِ اليَّهودُ والمؤمنونَ فقالتِ اليَّهودُ: نحنُ أحقُّ بالله وأقدمُ منكم كتاباً ونبـيُّنا قبل نبـيِّكم، وقال المؤمنون: نحنُ أحقُّ بالله منكُم آمنَّا بمحمَّدٍ وبنبـيِّكم وبما أَنزل الله من كتابٍ وأنتمُ تعرفون كتابَنا ونبـيَّنا ثم كفرتُم به حسداً فنزلت { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تفصيل لما أُجمل في قوله تعالى: { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ } { قُطّعَتْ لَهُمْ } أي قُدِّرت على مقاديرِ جُثثهم، وقُرىء بالتَّخفيفِ { ثِيَابٌ مّن نَّارِ } أي نيرانٍ هائلةٍ تحيطُ بهم إحاطةَ الثِّيابِ بلابسِها { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ ٱلْحَمِيمُ } أي الماءُ الحارُّ الذي انتهتْ حرارتُه، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: لو قطرت قطرةٌ منها على جبال الدُّنيا لأذابتَها. والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ للموصولِ أو حالٌ من ضميرِ لهم { يُصْهَرُ بِهِ } أي يُذاب { مَا فِى بُطُونِهِمْ } من الأمعاءِ والأحشاءِ، وقُرىء يُصهَّر بالتَّشديدِ { وَٱلْجُلُودُ } عطف على مَا وتأخيرُه عنه إمَّا لمراعاة الفواصلِ أو للإشعارِ بغاية شدَّةِ الحرارةِ بإيهامِ أنَّ تأثيرَها في الباطنِ أقدمُ من تأثيرِها في الظَّاهرِ مع أنَّ ملابستَها على العكسِ والجملةُ حالٌ من الحميمُ.

{ وَلَهُمْ } للكفرةِ أي لتعذيبهم وأجلِهم { مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } جمع مِقْمعةٍ وهي آلةُ القمعِ.

{ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } أي أشرفُوا على الخروجِ من النَّار ودَنَوا منه حسبما يُروى أنَّها تضربُهم بلهيبها فترفعُهم حتَّى إذا كانُوا في أعلاها ضُربوا بالمقامعِ فهوَوا فيها سبعينَ خريفاً { مِنْ غَمّ } أي من غمَ شديدٍ من غمومِها وهو بدلُ اشتمالٍ من الهاء بإعادة الجارِّ والرابط محذوفٌ كما أُشير إليه أو مفعولٌ له للخروج { أُعِيدُواْ فِيهَا } أي في قعرِها بأنْ رُدُّوا من أعاليها إلى أسافلِها من غيرِ أنْ يُخرجوا منها { وَذُوقُواْ } على تقدير قولٍ معطوفٍ على أعيدوا أي وقيل لهم: { عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أي الغليظَ من النَّارِ المنتشر العظيم الإهلاك.