الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ }

{ ذٰلِكَ } أي ما ذُكر من العذابِ الدنيويِّ والأُخرويِّ، وما فيهِ من مَعْنى البُعد للإيذانِ بكونِه في الغايةِ القاصيةِ من الهَولِ والفظاعةِ. وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى: { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي بسببِ ما اقترفتَهُ من الكفرِ والمعاصِي. وإسنادُه إلى يديهِ لما أنَّ الاكتسابَ عادةً يكونُ بالأيدي. والالتفاتُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِ التَّهديدِ. ومحلُّ أنَّ في قوله عزَّ وعلا: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } الرَّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدإٍ أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّبٍ لعبـيدِه بغيرِ ذنبٍ من قِبلَهم. والتَّعبـيرُ عن ذلك بنفيِ الظُّلمِ مع أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما تقرَّرَ من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً قد مرَّ تحقيقُه في سورةِ آلِ عمرانَ [آل عمران: 82] والجملة اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنَّ محلَّ أنَّ هُو الجرُّ بالعطفِ على ما قدمتْ فقد عرفتَ حالَه في سورة الأنفال [الأنفال: 51].

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } شروعٌ في بـيانِ حالِ المُذبذبـين إثرَ بـيانِ حالِ المُجاهرين أي ومنهُم من يعبدُه سبحانه وتعالى على طَرَفٍ من الدِّين لا ثباتَ له فيه كالَّذي ينحرفُ إلى طَرَفِ الجيشِ فإنْ أحسَّ بظَفَرٍ قَرَّ وإلا فَرَّ { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } أي دنيويٌّ من الصَّحَّةِ والسَّعةِ { ٱطْمَأَنَّ بِهِ } أي ثبتَ على ما كانَ عليهِ ظاهراً لا أنَّه اطمأنَّ به اطمئنانَ المُؤمنينَ الذينَ لا يلويهم عنه صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ. { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أي شيءٌ يُفتتنُ به من مكروهٍ يعتريهِ في نفسِه أو أهلِه أو مالِه. { ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } رُوي أنَّها نزلتْ في أعاريبَ قدمُوا المدينةَ وكانَ أحدُهم إذَا صحَّ بدنُه ونُتجتْ فرسُه مُهراً سَرِيًّا وولدتِ امرأتُه ولداً سَويًّا وكثُر مالُه وماشيتُه قال: ما أصبتُ منذُ دخلتُ في ديني هذا إلاَّ خَيْراً واطمأنَّ وإن كانَ الأمرُ بخلافِه قال: ما أصبتُ إلاَّ شرًّا وانقلبَ. وعن أبـي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه: أنَّ يهُوديًّا أسلمَ فأصابتْهُ مصائبُ فتشاءَم بالإسلامِ فأتَى النبـيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالَ: أقِلْني، فقال عليه السَّلامُ: " إنَّ الإسلامَ لا يُقال " فنزلت. وقيل: نزلتْ في المؤلَّفةِ قلوبُهم.

{ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةَ } فقدَهُما وضيَّعهما بذهابِ عصمتِه وحبوطِ عملِه بالارتدادِ. وقُرىء خاسرَ بالنَّصبِ على الحالِ، والرَّفعُ على الفاعليةِ. ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ الضَّميرِ تنصيصاً على خُسرانِه أو على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ { ذٰلِكَ } أي ما ذُكر من الخُسران وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بكونه في غايةِ ما يكونُ { هُوَ ٱلْخُسْرٰنُ ٱلْمُبِينُ } الواضحُ كونُه خُسراناً إذ لا خُسرانَ مثله.