الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } * { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } * { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ }

{ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم } بعد ما بُـيّن من جهته تعالى غايةُ هول ما يستعجله ونهايةُ سوءِ حالهم عند إتيانه ونُعيَ عليهم جهلُهم بذلك وإعراضُهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار وغيرُ ذلك من مساوي أحوالهم، أُمر عليه السلام بأن يقول لهم: إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة { بِٱلْوَحْىِ } الصادق الناطقِ بإتيانها وفظاعةِ ما فيها من الأهوال، أي إنما شأني أن أنذرَكم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحمٌ للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمانُ برهانيٌّ لا عياني، وقوله تعالى: { وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَاء } إما من تتمة الكلامِ الملقّن تذيـيلٌ له بطريق الاعتراض، قد أُمر عليه السلام بأن يقوله لهم توبـيخاً وتقريعاً وتسجيلاً عليهم بكمال الجهلِ والعِناد، واللامُ للجنس المنتظمِ للمخاطبـين انتظاماً أولياً أو للعهد فوضعُ المظهر موضعَ المضمر للتسجيل عليهم بالتصامّ، وتقيـيدُ نفي السماعِ بقوله تعالى: { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } مع أن الصمَّ لا يسمعون الكلام إنذاراً كان أو تبشيراً لبـيان كمال شدةِ الصّمَمِ، كما أن إيثارَ الدعاء الذي هو عبارةٌ عن الصوت والنداءِ على الكلام لذلك فإن الإنذارَ عادة يكون بأصوات عاليةٍ مكررةٍ مقارِنةٍ لهيئات دالةٍ عليه، فإذا لم يسمعوها يكون صَممُهم في غاية لا غايةَ وراءها، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله تعالى:بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 43] ويؤيده القراءةُ على خطاب النبـي عليه الصلاة والسلام من الإسماع بنصب الصمُّ والدعاءَ، كأنه قيل: قل لهم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم، وقرىء بالياء أيضاً على أن الفاعلَ هو عليه السلام، وقرىء على البناء للمفعول أي لا يقدر أحدٌ على إسماع الصمِّ.

وقوله تعالى: { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ } بـيان لسرعة تأثرِهم من مجيء نفس العذابِ إثرَ بـيان عدمِ تأثرِهم من مجيء خبرِه على نهج التوكيد القسمي، أي وبالله لئن أصابهم أدنى شيءٍ من عذابه تعالى كما ينبىء عنه المس والنفحة بجوهرها وبنائها فإن أصلَ النفحِ هبوبُ رائحة الشيء { لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } ليدْعُنّ على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترِفُنّ عليها بالظلم.

وقوله تعالى: { وَنَضَعُ ٱلْمَوٰزِينَ ٱلْقِسْطَ } بـيانٌ لما سيقع عند إتيانِ ما أُنذروه، أي نقيم الموازينَ العادلةَ التي توزن بها صحائفُ الأعمال، وقيل: وضعُ الموازين تمثيلٌ لإرصاد الحسابِ السويِّ والجزاء على حسب الأعمال، وقد مر تفصيلُ ما فيه من الكلام في سورة الأعراف، وإفرادُ القسطِ لأنه مصدرٌ وُصفَ به مبالغةً { لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } التي كانوا يستعجلونها أي لجزائه أو لأجل أهلِه أو فيه كما في قولك: جئت لخمسٍ خلَوْن من الشهر { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } من النفوس { شَيْئاً } حقاً من حقوقها أو شيئاً ما من الظلم، بل يوفى كلُّ ذي حق حقَّه إن خيراً فخيرٌ وإن شرًّا فشر، والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين { وَإِن كَانَ } أي العملُ المدلولُ عليه بوضع الموازين { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } أي مقدارَ حبة كائنةٍ من خردل، أي وإن كان في غاية القِلة والحَقارة فإن حبةَ الخردل مَثَلٌ في الصِغر، وقرىء مثقالُ حبة بالرفع على أن كان تامةٌ { أَتَيْنَا بِهَا } أي أحضرنا ذلك العملَ المعبَّر عنه بمثقال حبةِ الخردل للوزن، والتأنيث لإضافته إلى الحبة وقرىء آتينا بها أي جازينا بها من الإيتاء بمعنى المجازاة والمكافأةِ لأنهم أتَوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقرىء أثبنا من الثواب وقرىء جئنا بها { وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِينَ } إذ لا مزيدَ على علمنا وعدْلِنا.