الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } * { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } * { بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ }

{ قُلْ } خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليته بما ذكر من مصير أمرِهم إلى الهلاك وأمرٌ له عليه السلام بأن يقول لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتبكيت: { مَن يَكْلَؤُكُم } أي يحفظكم { بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهار مِنَ ٱلرَّحْمَنِ } أي من بأسه الذي تستحقون نزولَه ليلاً أو نهاراً، وتقديمُ الليل لما أن الدواهيَ أكثرُ فيه وقوعاً وأشدُّ وقعاً، وفي التعرض لعنوان الرحمانيةِ إيذانٌ بأن كالِئَهم ليس إلا رحمتُه العامةُ، وبعد ما أُمر عليه السلام بما ذكر من السؤال على الوجه المذكور حسبما تقتضيه حالُهم لأنهم بحيث لولا أن الله تعالى يحفظهم في المَلَوَيْن لحل بهم فنون الآفاتِ، فهم أحقّاءُ بأن يكلفوا الاعترافَ بذلك فيوبخوا على ما هم عليه من الإشراك، أُضرب عن ذلك بقوله تعالى: { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } ببـيان أن لهم حالاً أخرى مقتضيةً لصرف الخطابِ عنهم هي أنهم لا يُخطِرون ذكرَه تعالى ببالهم، فضلاً أن يخافوا بأسَه ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعَةِ حفظاً وكَلاءةً حتى يسألوا عن الكالِىءِ على طريقة قول من قال: [البسيط]
عُوجوا فحيُّوا لنُعمىٰ دِمنةَ الدار   ماذا تُحيُّون من نُؤْيٍ وأحجارِ
وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيرادِ اسمِ الرب المضافِ إلى ضميرهم المنبىء عن كونهم تحت ملكوتِه وتدبـيره وتربـيتِه تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصيةِ من الضلالة والغيّ ما لا يخفى، وكلمةُ أم في قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقالِ عما قبله من بـيان أن جهلَهم بحفظه تعالى إياهم لعدم خوفِهم الناشىءِ عن إعراضهم عن ذكر ربهم بالكلية إلى توبـيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادِهم الحفظَ إليها، والهمزةُ لإنكار أن يكون لهم آلهةٌ تقدر على ذلك والمعنى بل ألهم آلهةٌ تمنعهم من العذاب تتجاوز منْعنا أو حفظَنا، أو من عذاب كائنٍ من عندنا فهم معوّلون عليها واثقون بحفظها، وفي توجيه الإنكارِ والنفي إلى وجود الآلهةِ الموصوفة بما ذكر من المنع لا إلى نفس الصفةِ بأن يقال: أم تمنعهم آلهتُهم الخ، من الدِلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلاً عن رتبة المنع ما لا يخفى، وقوله عز وعلا: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } استئنافٌ مقرّر لما قبله من الإنكار وموضِّحٌ لبُطلان اعتقادِهم أي هم لا يستطيعون أن ينصُروا أنفسهم ولا يُصحَبون بالنصر من جهتنا، فكيف يتوهم أن ينصُروا غيرهم؟ وقوله تعالى: { بَلْ مَتَّعْنَا هَـؤُلاء وَءابَاءهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ } إضرابٌ عما توهموا ببـيان أن الداعيَ إلى حفظهم تمتيعُنا إياهم بما قدّر لهم من الأعمار أو عن الدِلالة على بطلانه ببـيان ما أوهمهم ذلك، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارُهم فحسِبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه، ولذلك عقّب بما يدل على أنه طمعٌ فارغٌ وأمل كاذبٌ حيث قيل: { أَفَلاَ يَرَوْنَ } أي ألا ينظرون فلا يرَون { أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ } أي أرضَ الكفرة { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا، وهو تمثيلٌ وتصويرٌ لما يُخْرِبه الله عز وجل من ديارهم على أيدي المسلمين ويُضيفها إلى دار الإسلام { أَفَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والفاء لإنكار ترتيب الغالبـيةِ على ما ذكر من نفس أرضِ الكفرةِ بتسليط المسلمين عليها، كأنه قيل: أبعد ظهورِ ما ذكر ورؤيتِهم له يتوهم غلَبتُهم؟ كما مر في قوله تعالى:

السابقالتالي
2