الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } * { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } * { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } * { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }

{ قَالُواْ } لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا بنزول العذاب { يا ويلنا } أي هلاكَنا { إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } أي مستوجِبـين للعذاب، وهذا اعترافٌ منهم بالظلم وباستتباعه للعذاب وندمٌ عليه حين لم ينفعْهم ذلك.

{ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } أي فما زالوا يرددون تلك الكلمةَ، وتسميتُها دعوى أيْ دعوةً لأن المُوَلولَ كأنه يدعو الويلَ قائلاً: يا ويل تعالَ فهذا أوانُك { حَتَّىٰ جَعَلْنَـٰهُمْ حَصِيداً } أي مثلَ الحصيدِ وهو المحصودُ من الزرع والنبت ولذلك لم يُجمع { خَـٰمِدِينَ } أي ميتين من خمَدت النارُ إذا طَفِئت وهو مع حصيداً في حيز المفعول الثاني للجعْل، كقولك: جعلتُه حُلْواً حامضاً، والمعنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيدِ والخمود، أو حالٌ من الضمير المنصوب في جعلناهم أو من المستكنّ في حصيداً أو صفة لحصيداً لتعدّده معنًى لأنه في حكم جعلناهم أمثالَ حصيد.

{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضَ } إشارةٌ إجماليةٌ إلى أن تكوينَ العالمَ وإبداعَ بني آدمَ مؤسسٌ على قواعد الحِكَم البالغةِ المستتبِعة للغايات الجليلةِ، وتنبـيهٌ على أن ما حُكي من العذاب الهائلِ والعقاب النازلِ بأهل القرى من مقتَضيات تلك الحِكَم ومتفرِّعاتها حسبَ اقتضاءِ أعمالِهم إياه، وأن للمخاطَبـين المقتدين بآثارهم ذَنوباً مثلَ ذَنوبهم، أي ما خلقناهما { وَمَا بَيْنَهُمَا } من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسُها وأفرادُها ولا تحصر أنواعُها وآحادُها على هذا النمط البديعِ والأسلوب المنيعِ خاليةٌ عن الحِكَم والمصالح، وإنما عبّر عن ذلك باللعب واللهو حيث قيل: { لاَعِبِينَ } لبـيان كمالِ تنزّهه تعالى عن الخَلْق الخالي عن الحِكمة بتصويره بصورةِ ما لا يرتاب أحدٌ في استحالة صدورِه عنه سبحانه، بل إنما خلقناهما وما بـينهما لتكون مبدأً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يقودُه إلى تحصيل معرفتِنا التي هي الغايةُ القصوى بواسطةِ طاعتِنا وعبادتنا كما ينطِق به قوله تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] وقوله تعالى:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] وقوله تعالى: { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } استئنافٌ مقرّر لما قبله من انتفاء اللعبِ واللهو، أي لو أردنا أن نتخذ ما يُتَلهّى به ويُلعب { لاَّتَّخَذْنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا } أي من جهة قدرتِنا أو من عندنا مما يليق بشأننا من المجردات لا من الأجسام المرفوعةِ والأجرامِ الموضوعة كدَيدن الجبابرةِ في رفع العروش وتحسينها وتسويةِ الفروش وتزيـينها، لكن يستحيل إرادتُنا له لمنافاته الحِكمةَ فيستحيل اتخاذُنا له قطعاً وقوله تعالى: { إِن كُنَّا فَـٰعِلِينَ } جوابُه محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه، أي إن كنا فاعلين لاتخذناه، وقيل: إن نافية أي ما كنا فاعلين أي لاتخاذ اللهو لعدم إرادتِنا إياه فيكون بـياناً لانتفاء التالي لانتفاء المقدّم أو لإرادة اتخاذِه فيكون بـياناً لانتفاء المقدّمِ المستلزِمِ لانتفاء التالي، وقيل: اللهوُ الولدُ بلغة اليمن، وقيل: الزوجةُ والمرادُ الردُّ على النصارى ولا يخفى بُعدُه.