الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى } * { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }

قوله تعالى: { تَنْزِيلاً } مصدرٌ مؤكدٌ لمضمر مستأنفٌ مقرّر لما قبله، أي نُزّل تنزيلاً أو لما تفيده الجملةُ الاستثنائيةُ فإنها متضمِّنةٌ لأن يقال: أنزلناه للتذكرة والأولُ هو الأنسبُ بما بعده من الالتفات أو منصوبٌ على المدح والاختصاص، وقيل: هو منصوبٌ بـيخشى على المفعولية أي يخشى تنزيلاً من الله تعالى، وأنت خبـير بأن تعليقَ الخشيةِ والخوفِ ونظائرِهما بمطلق التنزيلِ غيرُ معهودٍ، نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائرِه كما في قوله تعالى:يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [التوبة: 64]، وقيل: هو بدلٌ من تذكرةً لكن لا على أنه مفعولٌ له لأنزلنا إذ لا يعلل الشيءُ بنفسه ولا بنوعه، بل على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال من الكاف في عليك أو من القرآن، ولا مساغَ له إلا بأن يكون قيداً لأنزلنا بعد تقيّده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف، وقرىء تنزيلٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومِنْ في قوله تعالى: { مّمَّنْ خَلَق ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى } متعلقةٌ بتنزيلاً أو بمضمر هو صفةٌ له مؤكدةٌ لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، ونسبةُ التنزيلِ إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغَيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبـيان فخامتِه تعالى بحسب الصفات والأفعال إثرَ بـيانها بحسب الذات بطريق الإبهامِ، ثم التفسيرِ لزيادة تحقيق وتقريرٍ، وتخصيصُ خلقِهما بالذكر مع أن المراد خلقُهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصح عنه قوله تعالى:لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [طه: 6]، لأصالتهما واستتباعِهما لما عداهما، وتقديمُ الأرض لكونه أقربَ إلى الحس وأظهرَ عنده، ووصفُ السمواتِ بالعُلا ـ وهو جمعُ العليا تأنيثُ الأعلى ـ لتأكيد الفخامةِ مع ما فيه من مراعاة الفواصل، وكل ذلك إلى قوله تعالى:لَهُ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ } [طه: 8] مَسوقٌ لتعظيم شأنِ المنزِّل عز وجل المستتبعِ لتعظيم شأنِ المنزَّل الداعي إلى تربـية المهابةِ، وإدخالِ الروعةِ المؤديةِ إلى استنزال المتمرّدين عن رتبة العتوِّ والطُّغيان واستمالِتهم نحو الخشية المُفْضِية إلى التذكرة والإيمان.

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } رُفع على المدح أي هو الرحمٰنُ وقد عرفت في صدر سورةِ البقرة أن المرفوعَ مدحاً في حكم الصفةِ الجاريةِ على ما قبله وإن لم يكن تابعاً له في الإعراب، ولذلك التزموا حذفَ المبتدأ ليكون في صورة متعلّق من متعلقاته وقد قرىء بالجر على أنه صفةٌ صريحةٌ للموصول، وما قيل من أن الأسماءَ الناقصةَ لا يوصف منها إلا الذي وحده مذهب الكوفيـين، وأياً ما كان فوصفُه بالرحمانية إثرَ وصفِه بخالقية السموات والأرض للإشعار بأن خلقَهما من آثار رحمته تعالى كما أن قوله تعالى:رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ } [النبأ: 37] للإيذان بأن ربوبـيتَه تعالى بطريق الرحمةِ، وفيه إشارةٌ إلى أن تنزيلَ القرآنِ أيضاً من أحكام رحمتِه تعالى كما ينبّىء عنه قوله تعالى:

السابقالتالي
2