الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } * { وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي } * { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } * { يَفْقَهُواْ قَوْلِي }

{ قَالَ } استئنافٌ مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ، كأنه قيل: فماذا قال عليه الصلاة والسلام حين أُمر بهذا الأمر الخطيرِ والخطبِ العسير؟ فقيل قال مستعيناً بربه عز وجل: { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } { وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } لما أُمر بما أمر به من الخطب الجليلِ تضرّع إلى ربه عز وجل وأظهر عجْزَه بقوله: ويضيق صدري ولا ينطلق لساني، وسأله تعالى أن يوسعّ صدرَه ويفسَحَ قلبه ويجعله عليماً بشؤون الحق وأحوالِ الخلقِ حليماً حَمولاً يستقبل ما عسى يرِدُ عليه من الشدائد والمكاره بجميل الصبرِ وحسن الثبات ويتلقّاها بصدر فسيحٍ وجأش رابط، وأن يسّهل عليه مع ذلك أمرَه الذي هو أجلُّ الأمور وأعظمُها وأصعبُ الخطوب وأهولُها بتوفيق الأسبابِ ورفع الموانعِ، وفي زيادة كلمة (لي) مع انتظام الكلامِ بدونها تأكيدٌ لطلب الشرحِ والتيسير بإبهام المشروحِ والميسّر أولاً وتفسيرِهما ثانياً، وفي تقديمها وتكريرِها إظهارُ مزيدِ اعتناءٍ بشأن كل من المطلوبَـيْن وفضلِ اهتمامٍ باستدعاء حصولهما له واختصاصِهما به { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى } روي أنه كان في لسانه عليه الصلاة والسلام رُتّةٌ من جمرة أدخلها فاه في صغره، وذلك أن فرعون حمله ذاتَ يوم فأخذ لحيتَه فنتفها لما كان فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله، فقالت آسيةُ: إنه صبـيٌّ لا يفرق بـين الجمر والياقوت فأُحضِرا بـين يديه فأخذ الجمرةَ فوضعها في فيه، قيل: واحترقت يده فاجتهد فرعونُ في علاجها فلم تبرأ. ثم لما دعاه قال: إلى أي ربّ تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عَجزْتَ عنه، واختلف في زوال العُقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى: { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ } [طه: 36] ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى:هُوَ أَفْصَحُ مِنّى } [القصص: 34] وقوله تعالى:وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52] وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حلَّ عُقدة لسانه بالكلية بل حلَّ عقدةٍ تمنع الإفهام ولذلك نكرّها ووصفها بقوله: { مّن لّسَانِى } أي عقدةً كائنة من عُقَد لساني وجعل قوله تعالى: { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } جوابَ الأمر وغرضاً من الدعاء، فبحلّها في الجملة يتحقق إيتاءُ سؤلِه عليه الصلاة والسلام، والحقُّ أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة أما قوله تعالى:هُوَ أَفْصَحُ مِنّي } [القصص: 34] فلأنه عليه الصلاة والسلام قاله قبل استدعاءِ الحلِّ كما ستعرفه على أن أفصحيّتَه منه عليهما الصلاة والسلام لا تستدعي عدمَ البقاءِ لما أن الأفصحيةَ توجب ثبوتَ أصلِ الفصاحة في المفضول أيضاً وذلك منافٍ للعقدة رأساً، وأما قوله تعالى:وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } فمن باب غلوِّ اللعين في العتوّ والطغيان وإلا لدل على عدم زوالِها أصلاً، وتنكيرُها إنما يفيد قِلتها في نفسها لا قِلَّتها باعتبار كونِها بعضاً من الكثير، وتعلقُ كلمة مِنْ قوله تعالى: { مّن لّسَانِي } بمحذوف هو صفةٌ لها ليس بمقطوع به، بل الظاهرُ تعلُّقها بنفس الفعل فإن المحلولَ إذا كان متعلقاً بشيء ومتصلاً به فكما يتعلق الحلُّ به يتعلق بذلك الشيء أيضاً باعتبار إزالتِه عنه أو ابتداءِ حصوله منه.