الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } * { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } * { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } * { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } * { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ }

{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } أي عن الهدى الذاكرِ لي والداعي إليّ { فَإِنَّ لَهُ } في الدنيا { مَعِيشَةً ضَنكاً } ضيقاً، مصدرٌ وصف به ولذلك يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ، وقرىء ضنْكىٰ كسَكْرى وذلك لأن مجامعَ همتِه ومطامحَ نظرِه مقصورةٌ على أعراض الدنيا وهو متهالكٌ على ازديادها وخائفٌ على انتقاصها بخلاف المؤمنِ الطالبِ للآخرة، مع أنه قد يضيق الله تعالى بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى:وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } [البقرة: 61] وقال تعالى:وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ } إلى قوله تعالى: { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } وقيل: هو الضَّريعُ والزقومُ في النار، وقيل: عذاب القبر { وَنَحْشُرُهُ } وقرىء بسكون الهاء على لفظ الوقفِ وبالجزم عطفاً على محل (فإن له معيشةً ضنكاً) لأنه جواب الشرط { يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ } فاقدَ البصر كما في قوله تعالى:وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } [الإسراء: 97] لا أعمى عن الحجة كما قيل { قَالَ } استئنافٌ كما مر { رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } أى في الدنيا، وقرىء أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديراً بالتغيـير لكونه رأسَ الآية ومحلَّ الوقف.

{ قَالَ كَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك فعلتَ أنت ثم فسره بقوله تعالى: { أَتَتْكَ ايَـٰتُنَا } واضحةً نيِّرةً بحيث لا تخفى على أحد { فَنَسِيتَهَا } أي عَمِيتَ عنها وتركتها ترْكَ المنسيِّ الذي لا يُذكر أصلاً { وَكَذٰلِكَ } ومثلَ ذلك النسيانِ الذي كنت فعلته في الدنيا { ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } تترك في العمى جزاءً وفاقاً لكن لا أبداً كما قيل بل إلى ما شاء الله، ثم يزيله عنه فيرى أهوالَ القيامة ويشاهد مقعدَه في النار ويكون ذلك له عذاباً فوق العذاب، وكذا البَكَم والصمَمُ يزيلهما الله تعالى عنهمأَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم: 38] { وَكَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك الجزاءِ الموافقِ للجناية { نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ } بالإنهماك في الشهوات { وَلَمْ يُؤْمِن بِـئَايَـٰتِ رَبّهِ } بل كذبها وأعرض عنها { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ } على الإطلاق أو عذابُ النار { أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } أي من ضنْك العيشِ أو منه ومن الحشر على العمى.

{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ نَجْزِى } الآية، والهمزةُ للإنكارالتوبـيخي والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام، واستعمالُ الهداية باللام إما لتنزيلها منزلةَ اللام فلا حاجةَ إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبـيـين والمفعولُ محذوفٌ، وأياً ما كان فالفاعلُ هو الجملة بمضمونها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى أغَفلوا فلم يَفعل الهدايةَ لهم أو فلم يبـين لهم مآلَ أمرِهم كثرةُ إهلاكنا للقرون الأولى وقد مر في قوله عز وجل:

السابقالتالي
2