الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

{ وَقَالُواْ } بـيانٌ لبعضٍ آخرَ من جناياتهم، وفصلُه عما قبله مُشعرٌ بكونه من الأكاذيب التي اختلقوها ولم يكتبوها في الكتاب { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } في الآخرة { إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } قليلةً محصورةً عددَ أيام عبادتِهم العجلَ أربعين يوماً مُدةَ غَيْبةِ موسى عليه السلام عنهم. وحَكى الأصمعي عن بعض اليهود أن عددَ أيام عبادتهم العجلَ سبعة. ورُوي عن ابن عباس ومجاهدٍ أن اليهودَ قالوا عُمرُ الدنيا سبعةُ آلاف سنة وإنما نعذَّب بكل ألفِ سنةٍ يوماً واحداً. ورَوى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أن ما وجدوا في التوراة أن ما بـين طرفي جهنمَ مسيرةُ أربعين سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرةَ سنة فيكملونها { قُلْ } تبكيتاً لهم وتوبـيخاً { ٱتَّخَذْتُمْ } بإسقاط الهمزةِ المجتَلَبة لوقوعها في الدَّرْج وبإظهار الذال وقرىء بإدغامها في التاء { عِندَ ٱللَّهِ عَهْدًا } خبَراً أو وعداً بما تزعمون، فإن ما تدّعون لا يكون إلا بناءً على وعدٍ قوي ولذلك عَبَّر عنه بالعهد { فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ } الفاءُ فصيحة معربة عن شرط محذوفٍ كما في قول من قال:
قالوا خراسانُ أقصىٰ ما يُراد بنا   ثم القُفولُ فقد جئنا خُراسانا
أي إن كان الأمر كذلك فلن يُخلِفَه، والجملةُ اعتراضيةٌ وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بعِلّة الحُكم فإن عدم الإخلاف من قضية الألوهية، وإظهارُ العهدِ مضافاً إلى ضميره عز وجل لما ذكر، أو لأن المرادَ به جميعُ عهوده لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهدُ المعهودُ دخولاً أولياً، وفيه تجافٍ عن التصريح بتحقق مضمونِ كلامِهم وإن كان معلقاً بما لم يكَدْ يشَمُّ رائحةَ الوجود قطعاً أعني اتخاذَ العهد { أَمْ تَقُولُونَ } مفترين { عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقوعَه، وإنما عُلّق التوبـيخ بإسنادهم إليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعَه ــ مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبـيل ما يعلمون عدمَ وقوعِه ــ للمبالغة في التوبـيخ والنكير فإن التوبـيخَ على الأدنىٰ مستلزِمٌ للتوبـيخ على الأعلى بالطريق الأَوْلى، وقولُهم المحكيُّ وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه مستلزِمٌ له، لأن ذلك الجزمَ لا يكون إلا بإسناد سببِه إليه تعالى، وأمْ إما متصلةٌ والاستفهام للتقرير المؤدي إلى التبكيت لتحقق العلم بالشق الأخيرِ كأنه قيل: أم لم تتخذوه بل تتقوّلون عليه تعالى، وإما منقطعةٌ والاستفهام لإنكار الاتخاذِ ونفيِه ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقالُ من التوبـيخ بالإنكار على اتخاذ العهدِ إلى ما تفيد همزتُها من التوبـيخ على التقوُّل على الله سبحانه، كما في قوله عز وجل: قل آلله أذِنَ لكم أم على الله تفترون { بَلَىٰ } إلى آخره، جوابٌ عن قولهم المحكيِّ وإبطالٌ له من جهته تعالى وبـيانٌ لحقيقة الحالِ تفصيلاً في ضمن تشريعٍ كليٍّ شاملٍ لهم ولسائر الكَفَرة بعد إظهار كذِبِهم إجمالاً، وتفويضُ ذلك إلى النبـي صلى الله عليه وسلم لما أن المُحاجَّةَ والإلزامَ من وظائفه عليه السلام مع ما فيه من الإشعار بأنه أمرٌ هيِّنٌ لا يتوقف على التوقيف، وبلى حرفُ إيجابٍ مختصٌّ بجواب النفي خبراً واستفهاماً { مَن كَسَبَ سَيّئَةً } فاحشةً من السيئات أي كبـيرةً من الكبائر كدأب هؤلاء الكَفَرة، والكسبُ استجلابُ النفعِ، وتعليقُه بالسيئة على طريقة فبشِّرْهم بعذاب أليم { وَأَحَـٰطَتْ بِهِ } من جميع جوانبِه بحيث لم يبقَ له جانبٌ من قلبه ولسانه وجوارحِه إلا وقد اشتملت واستولت عليه { خَطِيـئَـتُهُ } التي كسَبها وصارت خاصةً من خواصّه كما تُنبىءَ عنه الإضافةُ إليه، وهذا إنما يتحقق في الكافر، ولذلك فسرها السلفُ بالكفر حسبما أخرجه ابن أبـي حاتم عن ابن عباس وأبـي هريرة رضي الله عنهم وابنُ جرير عن أبـي وائل ومجاهدٌ وقَتادةُ وعطاءٌ والربـيعُ وقيل: السيئةُ الكفرُ والخطيئةُ الكبـيرة، وقيل: بالعكس وقيل: الفرق بـينهما أن الأُولى قد تطلق على ما يُقصَد بالذات والثانيةُ تغلِبُ على ما يُقصَدُ بالعَرَض لأنها من الخطأ.

السابقالتالي
2