الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }

{ فَوَيْلٌ } هو وأمثالُه من ويحٍ وويسٍ وويبٍ وويهٍ وويكٍ وعوْلٍ من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارُها البتة فإن أضيف نُصب نحو ويلَك وويحَك وإذا فُصل عن الإضافة رُفع نحوُ ويلٌ له ومعنى الويلِ شدةُ الشر، قاله الخليل، وقال الأصمعيُّ: الويلُ التفجُّع والويحُ الترحُّم، وقال سيبويه: ويلٌ: لمن وقع في الهَلَكة وويحٌ: زجرٌ لمن أشرف على الهلاك، وقيل: الويلُ الحزن، وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بـينه وبـينها فرق وقيل: ويل في الدعاء عليه وويح وما بعده في الترحم عليه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الويلُ العذاب الأليم وعن سفيان الثوري أنه صديدُ أهلِ جهنم ورَوى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الويلُ وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافرُ أربعين خريفاً قبل أن يبلُغ قَعْرَه " وقال سعيد بن المسيب: إنه وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حرِّه، وقال ابن بريدة: جبلُ قيحٍ ودمٍ وقيل: صهريج في جهنم. وحكىٰ الزهراوي: أنه باب من أبواب جهنم وعلى كل حالٍ فهو مبتدأً خبرُه قوله عز وعلا: { لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ } أي المحرَّفَ أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيدٌ لدفع توهمِ المجاز كقولك: كتبتُه بـيميني { ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا } أي جميعاً على الأول، وبخصوصه على الثاني { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } رُوي أن أحبارَ اليهود خافوا ذهابَ مآكلِهم وزوالَ رياستهم حين قدِم النبـي صلى الله عليه وسلم المدينةَ فاحتالوا في تعويق أسافلِ اليهودِ عن الإيمان فعمَدوا إلى صفة النبـي صلى الله عليه وسلم في التوراة وكانت هي فيها: حسنُ الوجهِ حسَنُ الشعرِ أكحلُ العينين رَبْعةٌ، فغيّروها وكتبوا مكانها: طوُالٌ أزرقُ سِبَطُ الشعر. فإذا سألَهم سَفَلتُهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفته عليه السلام فيكذِّبونه، و(ثم) للتراخي الرتبـيّ فإن نسبةَ المحرَّفِ والتأويل الزائغِ إلى الله سبحانه صريحاً أشدُّ شناعةً من نفس التحريفِ والتأويلِ { لِيَشْتَرُواْ بِهِ } أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته { ثَمَناً } هو ما أخذوه من الرُّشا بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل، وإنما عُبر عن المشترىٰ الذي هو المقصودُ بالذات في عقد المعاوضة بالثمن الذي هو وسيلةٌ فيه إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلةً والوسيلةَ مقصوداً بالذات { قَلِيلاً } لا يُعبأ به فإن ذلك وإن جل في نفسه فهو أقلُّ قليلاً عندما استوجبوا به من العذاب الخالد { فَوَيْلٌ لَّهُمْ } تكريرٌ لما سبق للتأكيد وتصريحٌ بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضِه في حيِّز الصلةِ وبعضِه في معرِضِ الغرض، والفاءُ للإيذان بترتُّبه عليه. و(مِنْ) في قوله عز وجل: { مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } تعليليةٌ متعلقةٌ بويل، أو بالاستقرار في الخبر و(ما) موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف أي كتَبَتْه أو مصدرية والأول أدخَلُ في الزجر عن تعاطي المحرَّفِ والثاني في الزجر عن التحريف { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } الكلام فيه كالذي فيما قبله، والتكريرُ لما مر من التأكيد والتشديد، والقصدُ إلى التعليل بكل من الجانبـين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند الله لما أنه من مبادىء ترويجِ ما كتبت أيديهم فهو داخل في التعليل به.