الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }

{ وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ } وقرىء بتخفيف الياء، جمع أُمِّيّ، وهو من لا يقدر على الكتابة والقراءة واختُلف في نسبته فقيل: إلى الأم بمعنى أنه شبـيهٌ بها في الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شؤون النساء بل من خِلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التي ولدتْه أمُه في الخلوِّ عن العلم والكتابة وقيل: إلى الأُمّة بمعنى أنه باقٍ على سذاجتها خالٍ عن معرفة الأشياء كقولهم: عامّي أي على عادة العامة. روي عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارىٰ العربِ وقيل: هم قومٌ من أهل الكتاب رُفع كتابُهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أمّيـين، وعن عليّ رضي الله تعالى عنه: هم المجوسُ. والحقُّ الذي لا محيد عنه أنهم جَهلةُ اليهودِ والجملةُ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبـيان قبائحِهم إثرَ بـيانِ شنائعِ الطوائفِ السالفة، وقيل: هي معطوفةٌ على الجملة الحالية فإن مضمونَها منافٍ لرجاء الخير منهم وإن لم يكن فيه ما يحسِمُ مادةَ الطمع عن إيمانهم كما في مضمون الجملة الحالية وما بعدها، فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريفِ كلامِ الله بعد سماعِه والعلمِ بمعانيه كما وقع - من الأولين أو النفاق والنهي عن إظهار ما في التوراة كما وقع - من الفِرقتين الأخْرَيـين، أي ومنهم طائفةٌ جهَلةٌ غيرُ قادرين على الكتابة والتلاوة.

{ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ } أي لا يعرِفون التوراةَ ليطالعوها ويتحقَّقوا ما في تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحَملُ الكتاب على الكتابة يأباه سباقُ النظم الكريم وسياقُه { إِلاَّ أَمَانِىَّ } بالتشديد وقرىء بالتخفيف جمع أمنية أصلُها أُمنُوية أفعولة من منَّى بمعنى قدِّر أو بمعنى تلا، كَتَمَنَّى في قوله: *تمنَّى كتابَ الله أولَ ليله* فأُعلَّت إعلالَ سيِّد وميِّت ومعناها على الأول ما يقدّره الإنسان في نفسه ويتمناه وعلى الثاني ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناءُ منقطع إذ ليس ما يُتمنَّى وما يُتلى من جنس علم الكتاب أي لا يعلمون الكتابَ لكن يتمنَّوْن أمانيَّ حسبما منَّتْهم أحبارُهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءَهم الأنبـياءَ يشفعون لهم، وغيرُ ذلك من أمانيهم الفارغةِ المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائِهم. أو لا يعلمون الكتابَ لكن يتلقَّوْنه قدْرَ ما يُتلى عليهم فيقْبَلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه، وأما حملُ الأمانيَّ على الأكاذيبِ المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسةٌ بالكتاب فلا يساعدُه النظمُ الكريم { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ما هم إلا قومٌ قُصارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غير أن يصِلوا إلى رتبة العلمِ فأنَّى يُرْجىٰ منهم الإيمانُ المؤسَّسُ على قواعد اليقينِ.

ولما بـين حالَ هؤلاء في تمسكهم بحبال الأمانيّ واتباعِ الظن عقَّب ببـيان حالِ الذين أوقعوهم في تلك الورطةِ وبكشف كيفية إضلالِهم وتعيـين مرجعِ الكلِّ بالآخرة فقيل على وجه الدعاء عليهم.