الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }

{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } استئنافٌ تعليلي لما سبق الحكم، وبـيانٌ لما يقتضيه، أو بـيان وتأكيد له، والمرادُ بالقلب محلُّ القوة العاقلة من الفؤاد، والختم على الشيء الاستيثاقُ منه بضرب الخاتم عليه صيانةً له، أو لما فيه من التعرض له كما في البـيت الفارغ والكيس المملوء، والأولُ هو الأنسب بالمقام، إذ ليس المراد به صيانةَ ما في قلوبهم، بل إحداثَ حالةٍ تجعلها بسبب تماديهم في الغي وانهماكِهم في التقليد، وإعراضِهم عن منهاج النظر الصحيح، بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفُذُ فيها الحقُّ أصلاً، إما على طريقة الاستعارة التبعية، بأن يُشبّه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبوابِ المنازل الخالية المبنية للسُكنى تشبـيهَ معقولٍ بمحسوس بجامعٍ عقلي هو الاشتمالُ على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبَلَه، ويستعار له الختمُ ثم يشتق منه صيغةُ الماضي، وإما على طريقة التمثيل بأن يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من قلوبهم وقد فُعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجله من الأمور الدينية النافعة، وحيل بـينها وبـينه بالمرة بهيئةٍ منتزعةٍ من محالٍَّ مُعدةٍ لحلول ما يَحُلُّها حُلولاً مستتبعاً لمصالحَ مُهمة وقد مَنَع من ذلك بالختم عليها وحيل بـينها وبـين ما أعدت لأجله بالكلية، ثم يُستعار لها ما يدل على الهيئة المشبَّهِ بها فيكون كلٌّ من طرفي التشبـيه مركباً من أمور عدةٍ قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها وهو الختم، والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب، وتلك الألفاظُ وإن كان لها مدخَلٌ في تحقيق وجهِ الشبه الذي هو أمرٌ عقلي منتزَع منها وهو امتناعُ الانتفاعِ بما أُعِدَّ له بسبب مانعٍ قوي، ليس في شيء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز، بل هي باقية على حالها من كونها حقيقةً أو مجازاً أو كنايةً، وإنما التجوُّزُ في المجموع، وحيث كان معنى المجموع مجموعَ معاني تلك الألفاظ التي ليس فيها التجوزُ المعهود، ولم تكن الهيئةُ المنتزعةُ منها مدلولاً وضعياً لها ليكون ما دلَّ على الهيئة المشبه بها عند استعمالِه في الهيئة المشبهة مستعملاً في غير ما وضع له، فيندرجَ تحت الاستعارةِ التي هي قسمٌ من المجاز اللغوي، الذي هو عبارةٌ عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له، ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبدِ القاهر وأضرابِه إلى جعل التمثيلِ قسماً برأسه، ومن رام تقليلَ الأقسام عَدَّ تلك الهيئةَ المشبَّهَ بها من قبـيل المدلولات الوضعية، وجعل الكلامَ المفيد لها عند استعمالِه فيما يُشبَّه بها من هيئة أخرى منتزعةٍ من أمور أُخَرَ من قبـيل الاستعارة، وسماه استعارة تمثيلية، وإسنادُ إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لاستناد جميعِ الحوادث عندنا من حيث الخلقُ إليه سبحانه وتعالى، وورودُ الآية الكريمة ناعيةً عليهم سوءَ صنيعهم ووخامةَ عاقبتِهم لكون أفعالِهم من حيث الكسبُ مستندةً إليهم، فإن خلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيبِ على ما اقترفوه من القبائح كما يُعرِبُ عنه قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3