الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

[من أحوال الكفار]

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة، إثرَ بـيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل، وإنما تُرك العاطفُ بـينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالى:إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ } [الانفطار، الآية 13و 14]لِمَا بـينهما من التنافي في الأسلوب، والتبايُن في الغرض، فإن الأولى مَسوقةٌ لبـيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد، وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد، سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله، أو مفصولاً عنه، فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من الكلام المتقدم، فهو من مستتبِعاته لا محالة. وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبـيان أحوالِ الكفرة أصالةً، وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير، ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير، فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول، وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلول، وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بـيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاتِه.

و(إن) من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها، كإنني ولعلني ونظائرهما، وإعطاءِ معانيه، والتعدي خاصةً في الدخول على اسمين، ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ، وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه، وعند الكوفيـين لا عملَ لها في الخبر، بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب. وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل، وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها، فتعين إعمالُ الحرف، وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها، ولذلك يُتلقىٰ بها القسمُ، وتُصدَّر بها الأجوبة، ويؤتىٰ بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه، قال المبّرِد: قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه، وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه، وإن عبدَ اللَّه لقائمٌ جوابُ منكرٍ لقيامه.

وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبـي لهبٍ وأبـي جهلٍ والوليدِ بن المغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود، أو للجنس، وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى: { سَوَاء عَلَيْهِمْ } الخ، والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة، وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر. ومنه قيل للزارع والليلِ كافرٌ، قال تعالى:كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [الحديد، الآية: 20] وعليه قول لبـيد: [الكامل]
يعلوا الطريقة متنها متواترٌ   في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها
ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطّىٰ السلاحُ بدنه، وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام به، وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب، فإن مَنْ صدق النبـي عليه السلام لا يكاد يجترىء على أمثال ذلك، إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر، واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار، فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة، وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام، كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم { سَوَآء } هو اسمٌ بمعنى الاستواء، نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً، قال تعالى:

السابقالتالي
2 3