الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } معطوفٌ على الموصول الأول، على تقدير وصلِه بما قبله، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً، أو من حيث المعنى فقط، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبـيرُ عن المؤْمَن به بالغيب، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها، الموجبةِ للاتقاء عنها، بخلاف الآخرين، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بـينهما لاختلاف الذوات، بل لاختلاف الصفات كما في قوله: [المتقارب]
إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام   وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ
وقــولِـه: [السريع]
يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ   الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ
للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له، فإن كمالَ العلم بالعمل، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبـيهاً على كمال صِحتِه، وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابـين من الخلل كما سيأتي، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف، فإن كلاً من الإيمان الغيبـيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين ــ مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن به ــ فضيلةٌ باهرة، مستدعية لما ذكر، والله تعالى أعلم.

وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بـين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية، وبـين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع. وتكريرُ الموصول للتنبـيه على تغايُر القَبـيلَيْن، وتباينُ السبـيلين فلْيُتأمَّلْ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال.

[معنى إنزال الكتاب]

والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام، والمراد (بما أنزل إليك) هو القرآنُ بأسره، والشريعةُ عن آخرها.

السابقالتالي
2