الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

{ فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } أي استقبلها بالأخذ والقبولِ والعملِ بها حين علِمَها ووُفّق لها وقرىء بنصب آدمَ ورفع كلماتٌ دلالةً على أنها استقبلته بلغته وهي قوله تعالى:رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [الأعراف، الآية 23]. وقيل: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمُك وتعالى جدُّك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا رب ألم تخلُقْني بـيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفُخْ فيَّ من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبِقْ رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكنّي جنتَك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. والفاء للدلالة على أن التوبة حصلت عَقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به، والتعرضُ لعنوان الربوبـية مع الإضافة إليه عليه السلام للتشريف والإيذان بعلّيته لإلقاء الكلماتِ المدلولِ عليها بتلقيها { فَتَابَ عَلَيْهِ } أي رجع عليه بالرحمة وقَبولِ التوبةِ، والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة التي هي عبارة عن الاعتراف بالذنب والندمِ عليه والعزمِ على عدم العود إليه واكتُفي بذكر شأن آدمَ عليه السلام لما أن حواءَ تبَعٌ له في الحُكم ولذلك طُوي ذكرُ النساءِ في أكثرِ مواضعِ الكتاب والسنة { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } أي الرجّاع على عباده بالمغفرة أو الذي يُكثر إعانتَهم على التوبة، وأصلُ التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعاً عن المعصية، وإذاوُصف به الباري عز وعلا أريد به الرجوعُ عن العقاب إلى المغفرة { ٱلرَّحِيمُ } المبالِغُ في الرحمة وفي الجمع بـين الوصفين وعدٌ بليغٌ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران، والجملة تعليلٌ لقوله تعالى فتاب عليه.

{ قُلْنَا } استئناف مبنيٌ على سؤال ينسحِبُ عليه الكلامُ، كأنه قيل: فماذا وقع بعد قَبولِ توبتِه فقيل: قلنا: { ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا } كُرِّر الأمرُ بالهبوط إيذاناً بتحتم مقتضاه وتحقُّقه لا محالة. ودفعاً لما عسى يقعُ في أمنيَّتِه عليه السلام من استتباع قبول التوبةِ للعفو عن ذلك، وإظهاراً لنوع رأفةٍ به عليه السلام لما بـين الأمرين من الفرق النيّر، كيف لا والأولُ مشوبٌ بضرب سخطٍ مذيلٍ ببـيان أن مهبِطهم دارُ بليةٍ وتعادٍ لا يخلدون فيها. والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدىٰ المؤدي إلى النجاة والنجاح، وأما ما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصداً أولياً، بل إنما هو دائرٌ على سوء اختيارِ المكلفين.

قيل: وفيه تنبـيه على أن الحازم يكفيه في الردْع عن مخالفة حكم الله تعالى مخافةُ الإهباط المقترنِ بأحد هذين الأمرين، فكيف بالمقترن بهما فتأمل، وقيل: الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني منها إلى الأرض، ويأباه التعرضُ لاستقرارهم في الأرض في الأول، ورجوعُ الضمير إلى الجنة في الثاني، و(جميعاً) حال في اللفظ وتأكيدٌ في المعنى، كأنه قيل: اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي الاجتماعَ على الهبوط في زمان واحد كما في قولك: جاءوا جميعاً، بخلاف قولك: جاءوا معاً.

السابقالتالي
2